الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البرهان في علوم القرآن ***
وَمَتَّى كَانَ اللَّفْظُ جَزْلًا كَانَ الْمَعْنَى كَذَلِكَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ} (آلِ عِمْرَانَ: 59) وَلَمْ يَقُلْ مِنْ " طِينٍ " كَمَا أَخْبَرَ بِهِ سُبْحَانَهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ {إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ} (ص: 71) {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} (ص: 76) إِنَّمَا عَدَلَ عَنِ الطِّينِ الَّذِي هُوَ مَجْمُوعُ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ إِلَى ذِكْرِ مُجَرَّدِ التُّرَابِ لِمَعْنًى لَطِيفٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ أَدْنَى الْعُنْصُرَيْنِ وَأَكْثَفُهُمَا، لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مُقَابَلَةَ مَنِ ادَّعَى فِي الْمَسِيحِ الْإِلَهِيَّةَ أَتَى بِمَا يُصَغِّرُ أَمْرَ خَلْقِهِ عِنْدَ مَنِ ادَّعَى ذَلِكَ؛ فَلِهَذَا كَانَ الْإِتْيَانُ بِلَفْظِ التُّرَابِ أَمَسَّ فِي الْمَعْنَى مِنْ غَيْرِهِ مِنَ الْعَنَاصِرِ؛ وَلَمَّا أَرَادَ سُبْحَانَهُ الِامْتِنَانَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ يَخْلُقُ لَهُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ تَعْظِيمًا لِأَمْرِ مَا يَخْلُقُهُ بِإِذْنِهِ، إِذْ كَانَ الْمَعْنَى الْمَطْلُوبُ الِاعْتِدَادَ عَلَيْهِمْ بِخَلْقِهِ لِيُعَظِّمُوا قَدْرَ النِّعْمَةِ بِهِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} (النُّورِ: 45) فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ الْمَاءِ دُونَ بَقِيَّةِ الْعَنَاصِرِ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِصِيغَةِ الِاسْتِغْرَاقِ، وَلَيْسَ فِي الْعَنَاصِرِ الْأَرْبَعِ مَا يَعُمُّ جَمِيعَ الْمَخْلُوقَاتِ إِلَّا الْمَاءُ؛ لِيَدْخُلَ الْحَيَوَانُ الْبَحْرِيُّ فِيهَا. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ} (يُوسُفَ: 85) فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَتَى بِأَغْرَبِ أَلْفَاظِ الْقَسَمِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَخَوَاتِهَا، فَإِنَّ " وَاللَّهِ " وَ " بِاللَّهِ " أَكْثَرُ اسْتِعْمَالًا وَأَعْرَفُ مِنْ " تَاللَّهِ " لَمَّا كَانَ الْفِعْلُ الَّذِي جَاوَرَ الْقَسَمَ أَغْرَبَ الصِّيَغِ الَّتِي فِي بَابِهِ؛ فَإِنَّ (كَانَ) وَأَخَوَاتِهَا أَكْثَرُ اسْتِعْمَالًا مِنْ (تَفْتَأُ) وَأَعْرَفُ عِنْدَ الْعَامَّةِ؛ وَلِذَلِكَ أَتَى بَعْدَهَا بِأَغْرَبِ أَلْفَاظِ الْهَلَاكِ بِالنِّسْبَةِ وَهِيَ لَفْظَةُ (حَرَضٍ) وَلَمَّا أَرَادَ غَيْرَ ذَلِكَ قَالَ: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} (فَاطِرٍ: 42) لَمَّا كَانَتْ جَمِيعُ الْأَلْفَاظِ مُسْتَعْمَلَةً. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} (هُودٍ: 113) فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا نَهَى عَنِ الرُّكُونِ إِلَى الظَّالِمِينَ، وَهُوَ الْمَيْلُ إِلَيْهِمْ وَالِاعْتِمَادُ عَلَيْهِمْ، وَكَانَ دُونَ ذَلِكَ مُشَارَكَتُهُمْ فِي الظُّلْمِ، أَخْبَرَ أَنَّ الْعِقَابَ عَلَى ذَلِكَ دُونَ الْعِقَابِ عَلَى الظُّلْمِ؛ وَهُوَ مَسُّ النَّارِ الَّذِي هُوَ دُونَ الْإِحْرَاقِ وَالِاضْطِرَامِ، وَإِنْ كَانَ الْمَسُّ قَدْ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الْإِشْعَارُ بِالْعَذَابِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ} (الْمَائِدَةِ: 28) فَإِنَّهُ نَشَأَ فِي الْآيَةِ سُؤَالٌ، وَهُوَ أَنَّ التَّرْتِيبَ فِي الْجُمَلِ الْفِعْلِيَّةِ تَقْدِيمُ الْفِعْلِ وَتَعْقِيبُهُ بِالْفَاعِلِ، ثُمَّ بِالْمَفْعُولِ، فَإِنْ كَانَ فِي الْكَلَامِ مَفْعُولَانِ: أَحَدُهُمَا تَعَدَّى وَصُولُ الْفِعْلِ إِلَيْهِ بِالْحَرْفِ، وَالْآخَرُ تَعَدَّى بِنَفْسِهِ، قُدِّمَ مَا تَعَدَّى إِلَيْهِ الْفِعْلُ بِنَفْسِهِ؛ وَعَلَى ذَلِكَ جَاءَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ} (الْفَتْحِ: 24). إِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَقَدْ يُقَالُ: كَيْفَ تَوَخَّى حُسْنَ التَّرْتِيبِ فِي عَجُزِ الْآيَةِ دُونَ صَدْرِهَا؟ وَالْجَوَابُ أَنَّ حُسْنَ التَّرْتِيبِ مَنَعَ مِنْهُ فِي صَدْرِ الْآيَةِ مَانِعٌ أَقْوَى، وَهُوَ مَخَافَةُ أَنْ يَتَوَالَى ثَلَاثَةُ أَحْرُفٍ مُتَقَارِبَاتِ الْمَخْرَجِ، فَيَثْقُلَ الْكَلَامُ بِسَبَبِ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ لَوْ قِيلَ: " لَئِنْ بَسَطْتَ يَدَكَ إِلَيَّ " وَالطَّاءُ وَالتَّاءُ وَالْيَاءُ مُتَقَارِبَةُ الْمَخْرَجِ، فَلِذَلِكَ حَسُنَ تَقْدِيمُ الْمَفْعُولِ الَّذِي تَعَدَّى الْفِعْلُ إِلَيْهِ بِالْحَرْفِ عَلَى الْفِعْلِ الَّذِي تَعَدَّى إِلَيْهِ بِنَفْسِهِ، وَلَمَّا أُمِنَ هَذَا الْمَحْذُورُ فِي عَجُزِ الْآيَةِ لِمَا اقْتَضَتْهُ الْبَلَاغَةُ مِنَ الْإِتْيَانِ بِاسْمِ الْفَاعِلِ مَوْضِعَ الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ؛ لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى الْفِعْلِ الَّذِي تَصِحُّ بِهِ الْمُقَابَلَةُ، جَاءَ الْكَلَامُ عَلَى تَرْتِيبِهِ، مِنْ تَقْدِيمِ الْمَفْعُولِ الَّذِي تَعَدَّى الْفِعْلُ إِلَيْهِ بِنَفْسِهِ، عَلَى الْمَفْعُولِ الَّذِي تَعَدَّى إِلَيْهِ بِحَرْفِ الْجَرِّ، وَهَذَا أَمْرٌ يَرْجِعُ إِلَى تَحْسِينِ اللَّفْظِ؛ وَأَمَّا الْمَعْنَى فَعَلَى نَظْمِ الْآيَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْأَوَّلُ حَرِيصًا عَلَى التَّعَدِّي عَلَى الْغَيْرِ قُدِّمَ الْمُتَعَدِّي عَلَى الْآلَةِ، فَقَالَ: {إِلَيَّ يَدَكَ} وَلَمَّا كَانَ الثَّانِي غَيْرَ حَرِيصٍ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ نَفَاهُ عَنْهُ، قَدَّمَ الْآلَةَ فَقَالَ: {يَدِيَ إِلَيْكَ} وَيَدُلُّ لِهَذَا أَنَّهُ عُبِّرَ عَنِ الْأَوَّلِ بِالْفِعْلِ، وَفِي الثَّانِي بِالِاسْمِ. وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْمُمْتَحَنَةِ: {إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ} (الْمُمْتَحَنَةِ: 2) لِأَنَّهُ لَمَّا نَسَبَهُمْ لِلتَّعَدِّي الزَّائِدِ قَدَّمَ ذِكْرَ الْمَبْسُوطِ إِلَيْهِمْ عَلَى الْآلَةِ؛ وَذَلِكَ الْجَوَابُ السَّابِقُ لَا يُمْكِنُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} (النَّجْمِ: 31) مُقْتَضَى الصِّنَاعَةِ أَنْ يُؤْتَى بِالتَّجْنِيسِ لِلِازْدِوَاجِ فِي صَدْرِ الْآيَةِ، كَمَا أُتِيَ بِهِ فِي عَجُزِهَا، لَكِنْ مَنَعَهُ تَوَخِّي الْأَدَبِ وَالتَّهْذِيبِ فِي نَظْمِ الْكَلَامِ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الضَّمِيرُ الَّذِي فِي " يَجْزِيَ " عَائِدًا عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَجَبَ أَنْ يُعْدَلَ عَنْ لَفْظِ الْمَعْنَى الْخَاصِّ إِلَى رَدِيفِهِ، حَتَّى لَا تُنْسَبَ السَّيِّئَةُ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ، فَقَالَ فِي مَوْضِعِ السَّيِّئَةِ: {بِمَا عَمِلُوا} فَعُوِّضَ عَنْ تَجْنِيسِ الْمُزَاوَجَةِ بِالْإِرْدَافِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْأَدَبِ مَعَ اللَّهِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} (الشُّورَى: 40) فَإِنَّ هَذَا الْمَحْذُورَ مِنْهُ مَفْقُودٌ، فَجَرَى الْكَلَامُ عَلَى مُقْتَضَى الصِّنَاعَةِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى} (النَّجْمِ: 49) فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ خَصَّ الشِّعْرَى بِالذِّكْرِ دُونَ غَيْرِهَا مِنَ النُّجُومِ، وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ ظَهَرَ فِيهِمْ رَجُلٌ يُعْرَفُ بِابْنِ أَبِي كَبْشَةَ عَبَدَ الشِّعْرَى وَدَعَا خَلْقًا إِلَى عِبَادَتِهَا. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} (الْإِسْرَاءِ: 44) وَلَمْ يَقُلْ: " لَا تَعْلَمُونَ " لِمَا فِي الْفِقْهِ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَى الْعِلْمِ. وَقَوْلُهُ حِكَايَةً عَنْ إِبْرَاهِيمَ: {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ} (مَرْيَمَ: 45) فَإِنَّهُ لَمْ يَخْلُ هَذَا الْكَلَامُ مِنْ حُسْنِ الْأَدَبِ مَعَ أَبِيهِ؛ حَيْثُ لَمْ يُصَرِّحْ فِيهِ بِأَنَّ الْعَذَابَ لَاحِقٌ لَهُ، وَلَكِنَّهُ قَالَ: {إِنِّي أَخَافُ} (مَرْيَمَ: 45) فَذَكَّرَ الْخَوْفَ وَالْمَسَّ، وَذَكَّرَ الْعَذَابَ وَنَكَّرَهُ، وَلَمْ يَصِفْهُ بِأَنَّهُ يَقْصِدُ التَّهْوِيلَ، بَلْ قَصَدَ اسْتِعْطَافَهُ، وَلِهَذَا ذَكَرَ الرَّحْمَنَ وَلَمْ يَذْكُرِ الْمُنْتَقِمَ وَلَا الْجَبَّارَ، عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ: فَمَا يُوجِعُ الْحِرْمَانُ مِنْ كَفِّ حَازِمٍ *** كَمَا يُوجِعُ الْحِرْمَانُ مِنْ كَفِّ رَازِقِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} (الْأَنْعَامِ: 10) فَإِنَّهُ قَدْ يُقَالُ: مَا الْحِكْمَةُ فِي التَّعْبِيرِ بِالسُّخْرِيَةِ دُونَ الِاسْتِهْزَاءِ؟ وَهَلَّا قِيلَ: " فَحَاقَ بِالَّذِينِ اسْتَهْزَءُوا بِهِمْ " لِيُطَابِقَ مَا قَبْلَهُ؟ وَالْجَوَابُ أَنَّ الِاسْتِهْزَاءَ هُوَ إِسْمَاعُ الْإِسَاءَةِ، وَالسُّخْرِيَةَ قَدْ تَكُونُ فِي النَّفْسِ، وَلِهَذَا يَقُولُونَ: سَخِرْتُ مِنْهُ، كَمَا يَقُولُونَ: عَجِبْتُ مِنْهُ، وَلَا يُقَالُ: تُجُنِّبَ ذَلِكَ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَكْرَارِ الِاسْتِهْزَاءِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ؛ لِأَنَّهُ قَدْ كَرَّرَ السُّخْرِيَةَ ثَلَاثًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} (هُودٍ: 38) وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ: نَسْتَهْزِئُ بِكُمْ؛ لِأَنَّ الِاسْتِهْزَاءَ لَيْسَ مِنْ فِعْلِ الْأَنْبِيَاءِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} فَالْعَرَبُ تُسَمِّي الْجَزَاءَ عَلَى الْفِعْلِ بِاسْمِ الْفِعْلِ؛ كَقَوْلِهِ: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} (التَّوْبَةِ: 67) وَهُوَ مَجَازٌ حَسَنٌ، وَأَمَّا الِاسْتِهْزَاءُ الَّذِينَ نَحْنُ بِصَدَدِهِ فَهُوَ اسْتِهْزَاءٌ حَقِيقَةً لَا يَرْضَى بِهِ إِلَّا جَاهِلٌ. ثُمَّ قَالَ سُبْحَانَهُ: {فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ} (الْأَنْعَامِ: 10) أَيْ: حَاقَ بِهِمْ مِنَ اللَّهِ الْوَعِيدُ الْبَالِغُ لَهُمْ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ، فَنَزَلَتْ كُلُّ كَلِمَةٍ مَنْزِلَتَهَا. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} (الْبَقَرَةِ: 139) وَلَمْ يَذْكُرِ الْكَعْبَةَ؛ لِأَنَّ الْبَعِيدَ يَكْفِيهِ مُرَاعَاةُ الْجِهَةِ، فَإِنَّ اسْتِقْبَالَ عَيْنِهَا حَرَجٌ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْقَرِيبِ، وَلَمَّا خَصَّ الرَّسُولَ بِالْخِطَابِ تَعْظِيمًا وَإِيجَابًا لِشِرْعَتِهِ عَمَّمَ تَصْرِيحًا بِعُمُومِ الْحُكْمِ وَتَأْكِيدًا لِأَمْرِ الْقِبْلَةِ.
قَاعِدَةٌ: إِذَا اجْتَمَعَ الْحَمْلُ عَلَى اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى بُدِئَ بِاللَّفْظِ ثُمَّ بِالْمَعْنَى، هَذَا هُوَ الْجَادَّةُ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا} (الْبَقَرَةِ: 8) أَفْرَدَ أَوَّلًا بِاعْتِبَارِ اللَّفْظِ، ثُمَّ جَمَعَ ثَانِيًا بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى، فَقَالَ: {وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} (الْبَقَرَةِ: 8) فَعَادَ الضَّمِيرُ مَجْمُوعًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} (الطَّلَاقِ: 11) فَعَادَ الضَّمِيرُ مِنْ " يُدْخِلْهُ " مُفْرَدًا عَلَى لَفْظِ " مَنْ " ثُمَّ قَالَ: " خَالِدِينَ "، وَهُوَ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ. وَقَوْلِهِ: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ} (الْأَنْعَامِ: 25). وَقَوْلِهِ: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} (التَّوْبَةِ: 49). وَقَوْلِهِ: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ} (التَّوْبَةِ: 75) إِلَى قَوْلِهِ: {فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ} (التَّوْبَةِ: 76). وَقَدْ يَجْرِي الْكَلَامُ عَلَى أَوَّلِهِ فِي الْإِفْرَادِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} الْآيَتَيْنِ، فَكَرَّرَ فِيهَا ثَمَانِيَةَ ضَمَائِرَ، كُلُّهَا عَائِدٌ عَلَى لَفْظِ " مَنْ "، وَلَمْ يَرْجِعْ مِنْهَا شَيْءٌ عَلَى مَعْنَاهَا مَعَ أَنَّ الْمَعْنَى عَلَى الْكَثْرَةِ. وَقَدْ يُقْتَصَرُ عَلَى مَعْنَاهَا فِي الْجَمِيعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ يُونُسَ: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} (يُونُسَ: 42) وَمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْبَدَاءَةِ بِاللَّفْظِ عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ هُوَ الْكَثِيرُ، قَالَ الشَّيْخُ عَلَمُ الدِّينِ الْعِرَاقِيُّ: وَلَمْ يَجِئْ فِي الْقُرْآنِ الْبَدَاءَةُ بِالْحَمْلِ عَلَى الْمَعْنَى إِلَّا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا} (الْأَنْعَامِ: 139) فَأَنَّثَ " خَالِصَةٌ " حَمْلًا عَلَى مَعْنَى " مَا " ثُمَّ رَاعَى اللَّفْظَ فَذَكَّرَ، وَقَالَ: {وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا}. وَاعْتَرَضَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ وَقَالَ: إِنَّمَا يَتِمُّ مَا قَالَهُ مِنَ الْبَدَاءَةِ بِالْحَمْلِ عَلَى الْمَعْنَى فِي ذَلِكَ؛ إِذَا كَانَ الضَّمِيرُ الَّذِي فِي الصِّلَةِ الَّتِي هِيَ (فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ) يُقَدَّرُ مُؤَنَّثًا؛ أَمَّا إِذَا قُدِّرَ مُذَكَّرًا فَالْبَدَاءَةُ إِنَّمَا هُوَ بِالْحَمْلِ عَلَى اللَّفْظِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ اعْتِبَارَ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى أَمْرٌ يَرْجِعُ إِلَى الْأُمُورِ التَّقْدِيرِيَّةِ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ الْأَمْرَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا إِنَّمَا يَظْهَرُ فِي اللَّفْظِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ صَدَقَ أَنَّهُ إِنَّمَا بُدِئَ فِي الْآيَةِ بِالْحَمْلِ عَلَى الْمَعْنَى، فَيَتِمُّ كَلَامُ الْعِرَاقِيِّ. وَنَقَلَ الشَّيْخُ أَبُو حَيَّانَ فِي " تَفْسِيرِهِ " عَنِ ابْنِ عُصْفُورٍ أَنَّ الْكُوفِيِّينَ لَا يُجِيزُونَ الْجَمْعَ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ إِلَّا بِفَاصِلٍ بَيْنَهُمَا، وَلَمْ يَعْتَبِرِ الْبَصْرِيُّونَ الْفَاصِلَ، قَالَ: وَلَمْ يَرِدِ السَّمَاعُ إِلَّا بِالْفَاصِلِ كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْكُوفِيُّونَ، وَنَازَعَهُ الشَّيْخُ أَثِيرُ الدِّينِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} (الْبَقَرَةِ: 111) وَقَالَ: أَلَا تَرَاهُ كَيْفَ جَمَعَ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ دُونَ فَصْلٍ. انْتَهَى. وَالَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ عُصْفُورٍ فِي " شَرْحِ الْمُقَرَّبِ " شَرَطَ الْكُوفِيُّونَ فِي جَوَازِ اعْتِبَارِ اللَّفْظِ بَعْدَ اعْتِبَارِ الْمَعْنَى الْفَصْلَ؛ فَيُجَوِّزُونَ: مَنْ يَقُومُونَ الْيَوْمَ وَيَنْظُرُ فِي أَمْرِنَا إِخْوَتُنَا، وَلَا يُجَوِّزُونَ: مَنْ يَقُومُونَ وَيَنْظُرُ فِي أَمْرِنَا إِخْوَتُنَا؛ لِعَدَمِ الْفَصْلِ، وَإِنَّمَا وَرَدَ السَّمَاعُ بِالْفَصْلِ. انْتَهَى. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْكُوفِيِّينَ لَا يَشْتَرِطُونَ الْفَصْلَ عِنْدَ اجْتِمَاعِ الْجُمْلَتَيْنِ؛ إِلَّا أَنْ يُقَدَّمَ اعْتِبَارُ الْمَعْنَى وَيُؤَخَّرَ اعْتِبَارُ اللَّفْظِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} إِنَّمَا بُدِئَ فِيهِ بِالْحَمْلِ عَلَى اللَّفْظِ. وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: إِذَا حُمِلَ عَلَى اللَّفْظِ جَازَ الْحَمْلُ بَعْدَهُ عَلَى الْمَعْنَى وَإِذَا حُمِلَ عَلَى الْمَعْنَى ضَعُفَ الْحَمْلُ بَعْدَهُ عَلَى اللَّفْظِ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى أَقْوَى فَلَا يَبْعُدُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ بَعْدَ اعْتِبَارِ اللَّفْظِ، وَيَضْعُفُ بَعْدَ اعْتِبَارِ الْمَعْنَى الْقَوِيِّ الرُّجُوعُ إِلَى الْأَضْعَفِ. وَهَذَا مُعْتَرَضٌ بِأَنَّ الِاسْتِقْرَاءَ دَلَّ عَلَى أَنَّ اعْتِبَارَ اللَّفْظِ أَكْثَرُ مِنِ اعْتِبَارِ الْمَعْنَى، وَكَثْرَةُ مَوَارِدِهِ تَدُلُّ عَلَى قَوْلِهِ؛ وَأَمَّا الْعَوْدُ إِلَى اللَّفْظِ بَعْدَ اعْتِبَارِ الْمَعْنَى فَقَدْ وَرَدَ بِهِ التَّنْزِيلُ، كَمَا وَرَدَ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى بَعْدَ اعْتِبَارِ اللَّفْظِ، فَثَبَتَ أَنَّهُ يَجُوزُ الْحَمْلُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، بَعْدَ الْآخَرِ مِنْ غَيْرِ ضَعْفٍ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا} (الْأَحْزَابِ: 31) فَقَرَأَهُ الْجَمَاعَةُ بِتَذْكِيرِ " يَقْنُتْ " حَمْلًا عَلَى لَفْظِ " مَنْ " فِي التَّذْكِيرِ. وَ (تَعْمَلْ) بِالتَّأْنِيثِ حَمْلًا عَلَى مَعْنَاهَا لِأَنَّهَا لِلْمُؤَنَّثِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ " يَعْمَلْ " بِالتَّذْكِيرِ فِيهِمَا حَمْلًا عَلَى لَفْظِهَا رِعَايَةً لِلْمُنَاسَبَةِ فِي الْمُتَعَاطِفَيْنِ، وَتَوْجِيهُ الْجَمَاعَةِ أَنَّهُ لَمَّا تَقَدَّمَ عَلَى الثَّانِي صَرِيحُ التَّأْنِيثِ فِي (مِنْكُنَّ) حَسُنَ الْحَمْلُ عَلَى الْمَعْنَى. وَقَالَ أَبُو الْفَتْحِ فِي " الْمُحْتَسِبِ ": لَا يَجُوزُ مُرَاجَعَةُ اللَّفْظِ بَعْدَ انْصِرَافِهِ عَنْهُ إِلَى الْمَعْنَى، وَقَدْ يُورَدُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} (الزُّخْرُفِ: 36- 37) ثُمَّ قَالَ: {حَتَّى إِذَا جَاءَنَا} (الزُّخْرُفِ: 38) فَقَدْ رَاجَعَ اللَّفْظَ بَعْدَ الِانْصِرَافِ عَنْهُ إِلَى الْمَعْنَى، إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الضَّمِيرَ فِي " جَاءَ " يَرْجِعُ إِلَى الْكَافِرِ لِدَلَالَةِ السِّيَاقِ عَلَيْهِ لَا إِلَى " مَنْ ". وَمِنْهُ الْفَرْقُ بَيْنَ: " أَسْقَى " وَ " سَقَى " بِغَيْرِ هَمْزٍ؛ لِمَا لَا كُلْفَةَ مَعَهُ فِي السُّقْيَا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} (الدَّهْرِ: 21) فَأَخْبَرَ أَنَّ السُّقْيَا فِي الْآخِرَةِ لَا يَقَعُ فِيهَا كُلْفَةٌ، بَلْ جَمِيعُ مَا يَقَعُ فِيهَا مِنَ الْمَلَاذِّ يَقَعُ فُرْصَةً وَعَفْوًا، بِخِلَافِ (أَسْقَى) بِالْهَمْزَةِ؛ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنَ الْكُلْفَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُخَاطَبِينَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا} (الْمُرْسَلَاتِ: 27) {لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} (الْجِنِّ: 16) لِأَنَّ الْإِسْقَاءَ فِي الدُّنْيَا لَا يَخْلُو مِنَ الْكُلْفَةِ أَبَدًا. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ} (الْحِجْرِ: 19) قَالَ أَبُو سَلَمَةَ مُحَمَّدُ بْنُ بَحْرٍ الْأَصْبَهَانِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: إِنَّمَا خُصَّ الْمَوْزُونُ بِالذِّكْرِ دُونَ الْمَكِيلِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ غَايَةَ الْمَكِيلِ يَنْتَهِي إِلَى الْمَوْزُونِ؛ لِأَنَّ سَائِرَ الْمَكِيلَاتِ إِذَا صَارَتْ قِطَعًا دَخَلَتْ فِي بَابِ الْمَوْزُونِ وَخَرَجَتْ عَنِ الْمَكِيلِ، فَكَانَ الْوَزْنُ أَعَمَّ مِنَ الْمَكِيلِ. وَالثَّانِي: أَنَّ فِي الْمَوْزُونِ مَعْنَى الْمَكِيلِ؛ لِأَنَّ الْوَزْنَ هُوَ طَلَبُ مُسَاوَاةِ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ. وَمُقَايَسَتُهُ وَتَعْدِيلُهُ بِهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى ثَابِتٌ فِي الْمَكِيلِ، فَخُصَّ الْوَزْنُ بِالذِّكْرِ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى مَعْنَى الْمَكِيلِ. وَقَالَ الشَّرِيفُ الْمُرْتَضَى فِي " الْغُرَرِ ": هَذَا خِلَافُ الْمَقْصُودِ؛ بَلِ الْمُرَادُ بِالْمَوْزُونِ الْقَدْرُ الْوَاقِعُ بِحَسْبِ الْحَاجَةِ، فَلَا يَكُونُ نَاقِصًا عَنْهَا وَلَا زَائِدًا عَلَيْهَا زِيَادَةً مُضِرَّةً. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} (الْعَنْكَبُوتِ: 14) فَذَكَرَ فِي مُدَّةِ اللُّبْثِ السَّنَةَ، وَفِي الِانْفِصَالِ الْعَامِ؛ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ كَانَ فِي شَدَائِدَ فِي مُدَّتِهِ كُلِّهَا، إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا قَدْ جَاءَهُ الْفَرَجُ وَالْغَوْثُ؛ فَإِنَّ السَّنَةَ تُسْتَعْمَلُ غَالِبًا فِي مَوْضِعِ الْجَدْبِ، وَلِهَذَا سَمُّوا شِدَّةَ الْقَحْطِ سَنَةً. قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ عَلِمَ أَنَّ عُمْرَهُ كَانَ أَلْفًا؛ إِلَّا أَنَّ الْخَمْسِينَ مِنْهَا كَانَتْ أَعْوَامًا، فَيَكُونُ عُمُرُهُ أَلْفَ سَنَةٍ يَنْقُصُ مِنْهَا مَا بَيْنَ السِّنِينَ الشَّمْسِيَّةِ وَالْقَمَرِيَّةِ فِي الْخَمْسِينَ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ الْخَمْسِينَ عَامًا بِحَسْبِ الْأَهِلَّةِ أَقَلُّ مِنْ خَمْسِينَ سَنَةً شَمْسِيَّةً، بِنَحْوٍ مِنْ عَامٍ وَنِصْفٍ. وَابْنِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى قَوْلَهُ: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} (الْمَعَارِجِ: 4) وَقَوْلَهُ: {أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} (السَّجْدَةِ: 5) فَإِنَّهُ كَلَامٌ وَرَدَ فِي مَوْضِعِ التَّكْثِيرِ وَالتَّتْمِيمِ بِمُدَّةِ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَالسَّنَةُ أَطْوَلُ مِنَ الْعَامِ.
النَّحْتُ مِنْ نُظُومِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ؛ نَحْوَ الْحَوْقَلَةِ وَالْبَسْمَلَةِ، جَعَلَهُ ابْنُ الزَّمْلَكَانِيِّ مِنْ نُظُومِ الْقُرْآنِ، وَمَثَّلَهُ بِقَوْلِهِ: {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} (النِّسَاءِ: 79) قَالَ: وَكَفَى مِنْ: كَفَيْتُهُ الشَّيْءَ، وَلَمْ يَجِئْ لِلْعَرَبِ: كَفَيْتُهُ بِالشَّيْءِ، فَجَعَلَ بَيْنَ الْفِعْلَيْنِ الْفِعْلَ الْمَذْكُورَ وَهُوَ مُتَعَدٍّ، وَخَصَّ مِنَ الْفِعْلِ اللَّازِمِ وَهُوَ اكْتَفَيْتُ بِهِ بِالْبَاءِ، وَكَذَلِكَ انْتَصَبَ شَهِيدًا عَلَى التَّمْيِيزِ أَوِ الْحَالِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: كَفَى بِاللَّهِ فَاكْتَفِ بِهِ. فَاجْتَمَعَ فِيهِ الْخَبَرُ وَالْأَمْرُ.
مِنْ كَلَامِهِمْ إِبْدَالُ الْحُرُوفِ وَإِقَامَةُ بَعْضِهَا مَقَامَ بَعْضٍ؛ يَقُولُونَ: مَدَحُهُ وَمَدَهَهُ، وَهُوَ كَثِيرٌ أَلَّفَ فِيهِ الْمُصَنِّفُونَ، وَجَعَلَ مِنْهُ ابْنُ فَارِسٍ قَوْلَهُ تَعَالَى: {فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} (الشُّعَرَاءِ: 63) فَقَالَ: فَالرَّاءُ وَاللَّامُ مُتَعَاقِبَانِ كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ: فَلَقُ الصُّبْحِ وَفَرَقُهُ، قَالَ: وَذُكِرَ عَنِ الْخَلِيلِ وَلَمْ أَسْمَعْهُ سَمَاعًا أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ} (الْإِسْرَاءِ: 5) إِنَّمَا أَرَادَ " فَحَاسُوا "، فَقَامَتِ الْجِيمُ مَقَامَ الْحَاءِ. قَالَ ابْنُ فَارِسٍ: وَمَا أَحْسَبُ الْخَلِيلَ قَالَ هَذَا، وَلَا أَحُقُّهُ عَنْهُ. قُلْتُ: ذَكَرَ ابْنُ جِنِّيٍّ فِي " الْمُحْتَسِبِ " أَنَّهَا قِرَاءَةُ أَبُو السَّمَّالِ، وَقَالَ: قَالَ أَبُو زَيْدٍ أَوْ غَيْرُهُ: قُلْتُ لَهُ: إِنَّمَا هُوَ " فَجَاسُوا " فَقَالَ: حَاسُوا وَجَاسُوا وَاحِدٌ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْقُرَّاءِ يَتَخَيَّرُ بِلَا رِوَايَةٍ، وَلِذَلِكَ نَظَائِرُ. انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ابْنُ جِنِّيٍّ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ، وَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَقْرَأَ إِلَّا بِالرِّوَايَةِ، وَقَوْلُهُ: إِنَّهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ لَا يُوجِبُ الْقِرَاءَةَ بِغَيْرِ الرِّوَايَةِ كَمَا ظَنَّهُ أَبُو الْفَتْحِ، وَقَائِلُ ذَلِكَ وَالْقَارِئُ بِهِ هُوَ أَبُو السَّوَّارِ الْغَنَوِيُّ لَا أَبُو السَّمَّالِ، فَاعْلَمْ ذَلِكَ. كَذَلِكَ أَسْنَدَهُ الْحَافِظُ أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ فَقَالَ: حَدَّثَنَا الْمَازِنِيُّ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا السَّوَّارِ الْغَنَوِيَّ، فَقَرَأَ " فَحَاسُوا " بِالْحَاءِ غَيْرِ الْجِيمِ، فَقُلْتُ: إِنَّمَا هُوَ " فَجَاسُوا " قَالَ: حَاسُوا وَجَاسُوا وَاحِدٌ. وَيَعْنِي أَنَّ اللَّفْظَيْنِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَإِنْ كَانَ أَرَادَ أَنَّ الْقِرَاءَةَ بِذَلِكَ تَجُوزُ فِي الصَّلَاةِ، وَالْغَرَضُ كَمَا جَازَتْ بِالْأُولَى فَقَدْ غَلِطَ فِي ذَلِكَ وَأَسَاءَ. وَزَعَمَ الْفَارِسِيُّ فِي تَذْكِرَتِهِ فِي قَوْلِهِ: {إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ} (ص32) أَنَّهُ بِمَعْنَى حُبِّ الْخَيْلِ، وَسُمِّيَتِ الْخَيْلُ خَيْرًا لِمَا يَتَّصِلُ بِهَا مِنَ الْعِزِّ وَالْمَنَعَةِ، كَمَا رُوِيَ: الْخَيْلُ مَعْقُودٌ بِنَوَاصِيهَا الْخَيْرُ وَحِينَئِذٍ فَالْمَصْدَرُ مُضَافٌ إِلَى الْمَفْعُولِ بِهِ. وَقِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} (الْحِجْرِ: 22): إِنَّ أَصْلَهُ " مَلَاقِحَ "؛ لِأَنَّهُ يُقَالُ: أَلْقَحَتِ الرِّيحُ السَّحَابَ؛ أَيْ: جَمَعَتْهُ، وَكُلُّ هَذَا تَفْسِيرُ مَعْنًى، وَإِلَّا فَالْوَاجِبُ صَوْنُ الْقُرْآنِ أَنْ يُقَالَ فِيهِ مِثْلُ ذَلِكَ. وَذَكَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: {إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} (الْأَنْفَالِ: 35) مَعْنَاهُ " تَصْدِدَةً "، فَأَخْرَجَ الدَّالَ الثَّانِيَةَ يَاءً لِكَسْرِ الدَّالِ الْأُولَى، كَمَا حَكَاهُ صَاحِبُ " التَّرْقِيصِ ". وَحُكِيَ عَنْ أَبِي رِيَاشٍ فِي قَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ: فَسُلِّي ثِيَابِي مِنْ ثِيَابِكِ تَنْسَلِي *** مَعْنَاهُ " تَنْسَلِلْ "، فَأَخْرَجَ اللَّامَ الثَّانِيَةَ يَاءً لِكَسْرَةِ اللَّامِ الْأُولَى، وَمِثْلُهُ قَوْلُ الْآخَرِ: وَإِنِّي لَأَسْتَنْعِي وَمَا بِي نَعْسَةٌ *** لَعَلَّ خَيَالًا مِنْكِ يَلْقَى خَيَالِيَا أَرَادَ أَسْتَنْعِسُ، فَأَخْرَجَ السِّينَ يَاءً. وَقَالَ الْفَارِسِيُّ فِي " التَّذْكِرَةِ ": قَرَأَ أَبُو الْحَسَنِ أَوْ مَنْ قَرَأَ لَهُ قَوْلَهُ تَعَالَى فِيمَا حَكَى عَنْ يَعْقُوبَ فِي الْقَلْبِ وَالْإِبْدَالِ: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ} (الْأَنْعَامِ: 145) غَيْرَ عَائِدٍ، وَاسْتَحْسَنَهُ الْفَارِسِيُّ أَلَّا يَعُودَ إِلَيْهِ كَمَا يَعُودُ فِي حَالِ السَّعَةِ مِنَ الْعَشَاءِ إِلَى الْغَدَاءِ. وَقِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ} (الْأَنْعَامِ: 100) إِنَّ خَرَقَهُ وَاخْتَرَقَهُ وَخَلَقَهُ وَاخْتَلَقَهُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، هُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ فِي الْمَسِيحِ وَعُزَيْرٍ، وَقَوْلُ قُرَيْشٍ فِي الْمَلَائِكَةِ. وَجَوَّزَ الزَّمَخْشَرِيُّ كَوْنَهُ مِنْ خَرَقَ الثَّوْبَ: إِذَا شَقَّهُ، أَيْ: أَنَّهُمُ اشْتَقُّوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ.
ذَكَرَهُ ابْنُ فَارِسٍ، وَحَقِيقَتُهُ أَنْ يُؤْتَى بِاللَّفْظِ عَلَى وَزْنِ الْآخَرِ؛ لِأَجْلِ انْضِمَامِهِ إِلَيْهِ؛ وَإِنْ كَانَ لَا يَجُوزُ فِيهِ ذَلِكَ لَوِ اسْتُعْمِلَ مُنْفَرِدًا؛ كَقَوْلِهِمْ: أَتَيْتُهُ الْغَدَايَا وَالْعَشَايَا، فَقَالُوا: الْغَدَايَا؛ لِانْضِمَامِهَا إِلَى الْعَشَايَا. قِيلَ: وَمِنْ هَذَا كِتَابَةُ الْمُصْحَفِ، كَتَبُوا: {وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} (الضُّحَى: 2) بِالْيَاءِ، وَهُوَ مِنْ ذَوَاتِ الْوَاوِ، لَمَّا قُرِنَ بِغَيْرِهِ مِمَّا يُكْتَبُ بِالْيَاءِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ} (النِّسَاءِ: 90) فَاللَّامُ الَّتِي فِي لَسَلَّطَهُمْ جَوَابُ (لَوْ) ثُمَّ قَالَ: (فَلَقَاتَلُوكُمْ) فَهَذِهِ حُوذِيَتْ بِتِلْكَ اللَّامِ؛ وَإِلَّا فَالْمَعْنَى: لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَقَاتَلُوكُمْ. وَمِثْلُهُ {لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ} (النَّمْلِ: 21) فَهُمَا لَامَا قَسَمٍ، ثُمَّ قَالَ: {أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} فَلَيْسَ ذَا مَوْضِعَ قَسَمٍ؛ لِأَنَّهُ حَذَّرَ الْهُدْهُدَ، فَلَمْ يَكُنْ لِيُقْسِمَ عَلَى الْهُدْهُدِ أَنْ يَأْتِيَ بِعُذْرٍ لَكِنَّهُ لَمَّا جَاءَ بِهِ عَلَى أَثَرِ مَا يَجُوزُ فِيهِ الْقَسَمُ أَجْرَاهُ مَجْرَاهُ. وَمِنْهُ الْجَزَاءُ عَلَى الْفِعْلِ بِمِثْلِ لَفْظِهِ نَحْوُ: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} أَيْ: يُجَازِيهِمْ جَزَاءَ الِاسْتِهْزَاءِ. وَقَوْلِهِ: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} (آلِ عِمْرَانَ: 54) {فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ} (التَّوْبَةِ: 79) {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} (الشُّورَى: 40).
قَوَاعِدُ فِي النَّفْيِ: قَدْ تَقَدَّمَ فِي شَرْحِ مَعَانِي الْكَلَامِ جُمَلٌ مِنْ قَوَاعِدِهِ، وَنَذْكُرُ هَاهُنَا زِيَادَاتٍ: اعْلَمْ أَنَّ نَفْيَ الذَّاتِ الْمَوْصُوفَةِ قَدْ يَكُونُ نَفْيًا لِلصِّفَةِ دُونَ الذَّاتِ، وَقَدْ يَكُونُ نَفْيًا لِلذَّاتِ، وَانْتِفَاءُ النَّهْيِ عَنِ الذَّاتِ الْمَوْصُوفَةِ قَدْ يَكُونُ نَهْيًا عَنِ الذَّاتِ، وَقَدْ يَكُونُ نَهْيًا عَنِ الصِّفَةِ دُونَ الذَّوَاتِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} (الْإِسْرَاءِ: 33) فَإِنَّهُ نَهَى عَنِ الْقَتْلِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَقَالَ: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ} (الْأَنْعَامِ: 151). وَمِنَ الثَّانِي قَوْلُهُ: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} (الْمَائِدَةِ: 95) {وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (آلِ عِمْرَانَ: 102) أَيْ: فَلَا يَكُونُ مَوْتُكُمْ إِلَّا عَلَى حَالِ كَوْنِكُمْ مَيِّتِينَ عَلَى الْإِسْلَامِ، فَالنَّهْيُ فِي الْحَقِيقَةِ عَنْ كَوْنِهِمْ عَلَى خِلَافِ حَالِ الْإِسْلَامِ؛ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: لَا تُصَلِّ إِلَّا وَأَنْتَ خَاشِعٌ، فَإِنَّهُ لَيْسَ نَهْيًا عَنِ الصَّلَاةِ، بَلْ عَنْ تَرْكِ الْخُشُوعِ. وَقَوْلُهُ: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} (النِّسَاءِ: 43) الْآيَةَ. وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ النَّفْيَ بِحَسْبِ مَا يَتَسَلَّطُ عَلَيْهِ يَكُونُ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ: الْأَوَّلُ بِنَفْيِ الْمُسْنَدِ؛ نَحْوَ: مَا قَامَ زَيْدٌ بَلْ قَعَدَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} (الْبَقَرَةِ: 273) فَالْمُرَادُ نَفْيُ السُّؤَالِ مِنْ أَصْلِهِ؛ لِأَنَّهُمْ مُتَعَفِّفُونَ؛ وَيَلْزَمُ مِنْ نَفْيِهِ نَفْيُ الْإِلْحَافِ. الثَّانِي: أَنْ يُنْفَى الْمُسْنَدُ إِلَيْهِ، فَيَنْتَفِيَ الْمُسْنَدُ، نَحْوُ: مَا قَامَ زَيْدٌ، إِذَا كَانَ زَيْدٌ غَيْرَ مَوْجُودٍ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ زَيْدٍ نَفْيُ الْقِيَامِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} (الْمُدَّثِّرِ: 48) أَيْ: لَا شَافِعِينَ لَهُمْ فَتَنْفَعُهُمْ شَفَاعَتُهُمْ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: عَلَى لَاحِبٍ لَا يُهْتَدَى بِمَنَارِهِ *** أَيْ: عَلَى طَرِيقٍ لَا مَنَارَ لَهُ، فَيُهْتَدَى بِهِ، وَلَمْ يَكُنْ مُرَادُهُ أَنْ يُثْبِتَ الْمَنَارَ فَيَنْتَفِيَ الِاهْتِدَاءُ بِهِ. الثَّالِثُ: أَنْ يُنْفَى الْمُتَعَلِّقُ دُونَ الْمُسْنَدِ وَالْمُسْنَدِ إِلَيْهِ، نَحْوُ: مَا ضَرَبْتُ زَيْدًا بَلْ عَمْرًا. الرَّابِعُ: أَنْ يُنْفَى قَيْدُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ أَوِ الْمُتَعَلِّقِ؛ نَحْوُ: مَا جَاءَنِي رَجُلٌ كَاتِبٌ بَلْ شَاعِرٌ، وَمَا رَأَيْتُ رَجُلًا كَاتِبًا بَلْ شَاعِرًا؛ فَلَمَّا كَانَ النَّفْيُ قَدْ يَنْصَبُّ عَلَى الْمُسْنَدِ وَقَدْ يَنْصَبُّ عَلَى الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ أَوِ الْمُتَعَلِّقِ، وَقَدْ يَنْصَبُّ عَلَى الْقَيْدِ احْتَمَلَ فِي قَوْلِنَا: مَا رَأَيْتُ رَجُلًا كَاتِبًا أَنْ يَكُونَ الْمَنْفِيُّ هُوَ الْقَيْدَ، فَيُفِيدُ الْكَلَامُ رُؤْيَةَ غَيْرِ الْكَاتِبِ؛ وَهُوَ احْتِمَالٌ مَرْجُوحٌ؛ وَلَا يَكُونُ الْمَنْفِيُّ الْمُسْنَدَ؛ أَيِ: الْفِعْلَ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ مِنْهُ رُؤْيَةٌ عَلَيْهِ؛ لَا عَلَى رَجُلٍ وَلَا عَلَى غَيْرِهِ؛ وَهُوَ فِي الْمَرْجُوحِيَّةِ كَالَّذِي قَبْلَهُ.
نَفَيُ الشَّيْءِ رَأْسًا لِأَنَّهُ عُدِمَ كَمَالُ وَصْفِهِ أَوْ لِانْتِفَاءِ ثَمَرَتِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي صِفَةِ أَهْلِ النَّارِ: {لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا} (طه: 74) فَنَفَى عَنْهُ الْمَوْتَ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَوْتٍ صَرِيحٍ، وَنَفَى عَنْهُ الْحَيَاةَ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِحَيَاةٍ طَيِّبَةٍ وَلَا نَافِعَةٍ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى} (الْحَجِّ: 2) أَيْ: مَا هُمْ بِسُكَارَى مَشْرُوبٍ، وَلَكِنْ سُكَارَى فَزَعٍ. وَقَوْلِهِ: {لَا يَنْطِقُونَ وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} (الْمُرْسَلَاتِ: 35- 36) وَهُمْ قَدْ نَطَقُوا بِقَوْلِهِمْ: {يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيِاتِ رَبِّنَا} (الْأَنْعَامِ: 27) وَلَكِنَّهُمْ لَمَّا نَطَقُوا بِمَا لَمْ يَنْفَعْ فَكَأَنَّهُمْ لَمْ يَنْطِقُوا. وَقَوْلِهِ: {لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا} (الْأَعْرَافِ: 179). وَقَوْلِهِ: {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} (الْمُلْكِ: 10). وَمِنْهُ قَوْلُهُ: {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} (الْأَعْرَافِ: 198) فَإِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ احْتَجُّوا بِهِ عَلَى نَفْيِ الرُّؤْيَةِ؛ لِأَنَّ النَّظَرَ لَا يَسْتَلْزِمُ الْإِبْصَارَ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ قَوْلِهِ: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} (الْقِيَامَةِ: 23) إِبْصَارٌ. وَهَذَا وَهْمٌ؛ لِأَنَّ الرُّؤْيَةَ تُقَالُ عَلَى أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا الْحُسْبَانُ، وَالثَّانِي الْعِلْمُ، وَالْآيَةُ مِنَ الْمَعْنَى الْأَوَّلِ؛ أَيْ: تَحْسَبُهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ؛ لِأَنَّ لَهُمْ أَعْيُنًا مَصْنُوعَةً بِأَجْفَانِهَا وَسَوَادِهَا، يَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنَّهَا تَنْظُرُ إِلَيْهِ بِإِقْبَالِهَا عَلَيْهِ، وَلَيْسَتْ تُبْصِرُ شَيْئًا. وَمِنْهُ: {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ} (التَّوْبَةِ: 12). وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (الْبَقَرَةِ: 102) فَإِنَّهُ وَصَفَهُمْ أَوَّلًا بِالْعِلْمِ عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ الْقَسَمِيِّ، ثُمَّ نَفَاهُ أَخِيرًا عَنْهُمْ؛ لِعَدَمِ جَرْيِهِمْ عَلَى مُوجِبِ الْعِلْمِ، كَذَا قَالَهُ السَّكَّاكِيُّ وَغَيْرُهُ. وَقَدْ يُقَالُ: لَمْ يَتَوَارَدِ النَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ عَلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ الْمُثْبَتَ أَوَّلًا نَفْسُ الْعِلْمِ، وَالْمَنْفِيَّ إِجْرَاءُ الْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهُ، وَيَحْتَمِلُ حَذْفُ الْمَفْعُولَيْنِ أَوِ اخْتِلَافُ أَصْحَابِ الضَّمِيرَيْنِ. قَالَ: وَنَظِيرُهُ فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ قَوْلُهُ: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} (الْأَنْفَالِ: 17). قُلْتُ: الْمَنْفِيُّ أَوَّلًا التَّأْثِيرُ، وَالْمُثْبَتُ ثَانِيًا نَفْسُ الْفِعْلِ. وَمِنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ يَزُولُ الْإِشْكَالُ فِي قَوْلِهِ: {وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} (الْمَائِدَةِ: 67) وَالْمَعْنَى: إِنْ لَمْ تَفْعَلْ بِمُقْتَضَى مَا بَلَّغْتَ فَأَنْتَ فِي حُكْمِ غَيْرِ الْمُبَلِّغِ، كَقَوْلِكَ لِطَالِبِ الْعِلْمِ: إِنْ لَمْ تَعْمَلْ بِمَا عَلِمْتَ فَأَنْتَ لَمْ تَعْلَمْ شَيْئًا أَيْ: فِي حُكْمِ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ. وَمِنْهُ نَفْيُ الشَّيْءِ مُقَيَّدًا، وَالْمُرَادُ نَفْيُهُ مُطْلَقًا، وَهَذَا مِنْ أَسَالِيبِ الْعَرَبِ يَقْصِدُونَ بِهِ الْمُبَالَغَةَ فِي النَّفْيِ وَتَأْكِيدَهُ، كَقَوْلِهِمْ: فُلَانٌ لَا يُرْجَى خَيْرُهُ، لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ فِيهِ خَيْرًا لَا يُرْجَى، غَرَضُهُمْ أَنَّهُ لَا خَيْرَ فِيهِ عَلَى وَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ. وَمِنْهُ: {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ} (آلِ عِمْرَانَ: 21) فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَتْلَهُمْ لَا يَكُونُ إِلَّا بِغَيْرِ حَقٍّ، ثُمَّ وَصَفَ الْقَتْلَ بِمَا لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ مِنَ الصِّفَةِ، وَهِيَ وُقُوعُهُ عَلَى خِلَافِ الْحَقِّ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} (الْمُؤْمِنُونَ: 117) إِنَّهَا وَصْفٌ لِهَذَا الدُّعَاءِ، وَأَنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ غَيْرِ بُرْهَانٍ. وَقَوْلُهُ: {وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} (الْبَقَرَةِ: 41) تَغْلِيظٌ وَتَأْكِيدٌ فِي تَحْذِيرِهِمُ الْكُفْرَ. وَقَوْلُهُ: {وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا} (الْبَقَرَةِ: 41) لِأَنَّ كُلَّ ثَمَنٍ لَهَا لَا يَكُونُ إِلَّا قَلِيلًا، فَصَارَ نَفْيُ الثَّمَنِ الْقَلِيلِ نَفْيًا لِكُلِّ ثَمَنٍ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} (الْبَقَرَةِ: 273) فَإِنَّ ظَاهِرَهُ نَفْيُ الْإِلْحَافِ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَالْحَقِيقَةُ نَفْيُ الْمَسْأَلَةِ الْبَتَّةَ؛ وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ} (الْبَقَرَةِ: 273) وَمَنْ لَا يَسْأَلُ لَا يُلْحِفُ قَطْعًا، ضَرُورَةَ أَنَّ نَفْيَ الْأَعَمِّ يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْأَخَصِّ. وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} (غَافِرٍ: 18) لَيْسَ الْمُرَادُ نَفْيَ الشَّفِيعِ بِقَيْدِ الطَّاعَةِ، بَلْ نَفْيُهُ مُطْلَقًا، وَإِنَّمَا قَيَّدَهُ بِذَلِكَ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَنْكِيلٌ بِالْكُفَّارِ؛ لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَشْفَعُ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَإِذَا شَفَعَ يُشَفَّعُ، لَكِنَّ الشَّفَاعَةَ مُخْتَصَّةٌ بِالْمُؤْمِنِينَ، فَكَانَ نَفْيُ الشَّفِيعِ الْمُطَاعِ تَنْبِيهًا عَلَى حُصُولِهِ لِأَضْدَادِهِمْ؛ كَقَوْلِكَ لِمَنْ يُنَاظِرُ شَخْصًا ذَا صَدِيقٍ نَافِعٍ: لَقَدْ حَدَّثْتَ صَدِيقًا نَافِعًا، وَإِنَّمَا تُرِيدُ التَّنْوِيهَ بِمَا حَصَلَ لِغَيْرِهِ؛ لِأَنَّ لَهُ صَدِيقًا وَلَمْ يَنْفَعْ. الثَّانِي: أَنَّ الْوَصْفَ اللَّازِمَ لِلْمَوْصُوفِ لَيْسَ بِلَازِمٍ أَنْ يَكُونَ لِلتَّقْيِيدِ؛ بَلْ يَدُلُّ لِأَغْرَاضٍ مِنْ تَحْسِينِهِ أَوْ تَقْبِيحِهِ، نَحْوِ: لَهُ مَالٌ يَتَمَتَّعُ بِهِ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا} (سَبَأٍ: 44) {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (الْبَقَرَةِ: 174). الثَّالِثُ: قَدْ يَكُونُ الشَّفِيعُ غَيْرَ مُطَاعٍ فِي بَعْضِ الشَّفَاعَاتِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي بَعْضِ الْحَدِيثِ مَا يُوهِمُ صُورَةَ الشَّفَاعَةِ مِنْ غَيْرِ إِجَابَةٍ؛ كَحَدِيثِ الْخَلِيلِ مَعَ وَالِدِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّمَا دَلَّ عَلَى التَّلَازُمِ دَلِيلُ الشَّرْعِ. وَقَوْلُهُ: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ} (الْإِسْرَاءِ: 111) أَيْ: مِنْ خَوْفِ الذُّلِّ، فَنَفْيُ الْوَلِيِّ لِانْتِفَاءِ خَوْفِ الذُّلِّ؛ فَإِنَّ اتِّخَاذَ الْوَلِيِّ فَرْعٌ عَنْ خَوْفِ الذُّلِّ وَسَبَبٌ عَنْهُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} (الْبَقَرَةِ: 255) نَفْيُ الْغَلَبَةِ؛ وَالْمُرَادُ نَفْيُ أَصْلِ النَّوْمِ وَالسِّنَةِ عَنْ ذَاتِهِ، فَفِي الْآيَةِ التَّصْرِيحُ بِنَفْيِ النَّوْمِ وُقُوعًا وَجَوَازًا، أَمَّا وُقُوعًا فَبِقَوْلِهِ: {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} (الْبَقَرَةِ: 255) وَأَمَّا جَوَازًا فَبِقَوْلِهِ: (الْقَيُّومُ) وَقَدْ جَمَعَهُمَا قَوْلُهُ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إِنَّ اللَّهَ لَا يَنَامُ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ. وَقَوْلُهُ: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ} (يُونُسَ: 18) أَيْ: بِمَا لَا وُجُودَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وُجِدَ لَعَلِمَهُ مَوْجُودًا لِوُجُوبِ تَعَلُّقِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِكُلِّ مَعْلُومٍ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} (آلِ عِمْرَانَ: 90) عَلَى قَوْلِ مَنْ نَفَى الْقَبُولَ لِانْتِفَاءِ سَبَبِهِ وَهُوَ التَّوْبَةُ، لَا يُوجَدُ تَوْبَةٌ فَيُوجَدُ قَبُولٌ. وَعَكْسُهُ: {وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ} (الْأَعْرَافِ: 102) فَإِنَّهُ نَفْيٌ لِوِجْدَانِ الْعَهْدِ لِانْتِفَاءِ سَبَبِهِ، وَهُوَ الْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ. وَقَوْلُهُ: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} (يُوسُفَ: 40) أَيْ: مِنْ حُجَّةٍ، أَيْ لَا حُجَّةَ عَلَيْهَا، فَيَسْتَحِيلُ إِذَنْ أَنْ يَنْزِلَ بِهَا حُجَّةٌ. وَنَظِيرُهُ مِنَ السُّنَّةِ قَوْلُهُ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: الدَّجَّالُ أَعْوَرُ، وَاللَّهُ لَيْسَ بِأَعْوَرَ أَيْ: بِذِي جَوَارِحَ كَوَامِلَ بِتَخَيُّلٍ لَهُ أَنَّ لَهُ جَوَارِحَ نَوَاقِصَ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} (الْكَهْفِ: 109) لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ كَلِمَاتِ اللَّهِ تَنْفَدُ بَعْدَ نَفَادِ الْبَحْرِ، بَلْ لَا تَنْفَدُ أَبَدًا لَا قَبْلَ نَفَادِ الْبَحْرِ وَلَا بَعْدَهُ، وَحَاصِلُ الْكَلَامِ: لَنَفِدَ الْبَحْرُ وَلَا تَنْفَدُ كَلِمَاتُ رَبِّي. وَوَقَعَ فِي شِعْرِ جَرِيرٍ قَوْلُهُ: فَيَا لَكَ يَوْمًا خَيْرُهُ قَبْلَ شَرِّهِ *** تَغَيَّبَ وَاشِيهِ وَأَقْصَرَ عَاذِلُهُ قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: أَنْشَدْتُهُ كَذَلِكَ لِخَلَفٍ الْأَحْمَرِ فَقَالَ: أَصْلِحْهُ: فَيَا لَكَ يَوْمًا خَيْرُهُ دُونَ شَرِّهِ *** فَإِنَّهُ لَا خَيْرَ لِخَيْرٍ بَعْدَهُ شَرٌّ وَمَا زَالَ الْعُلَمَاءُ يُصْلِحُونَ أَشْعَارَ الْعَرَبِ، قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَا أَرْوِيهِ أَبَدًا إِلَّا كَمَا أَوْصَيْتَنِي. نَقَلَ ابْنُ رَشِيقٍ هَذِهِ الْحِكَايَةَ فِي الْعُمْدَةِ وَصَوَّبَهَا. قَالَ ابْنُ الْمُنَيِّرِ: وَوَقَعَ لِي أَنَّ الْأَصْمَعِيَّ وَخَلَفًا الْأَحْمَرَ وَابْنَ رَشِيقٍ أَخْطَئُوا جَمِيعًا وَأَصَابَ جَرِيرٌ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ إِلَّا " فَيَا لِكَ يَوْمُ خَيْرٍ لَا شَرَّ فِيهِ " وَأَطْلَقَ " قَبْلَ " لِلنَّفْيِ كَمَا قُلْنَاهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} (الْكَهْفِ: 109) وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} (الرَّعْدِ: 2) وَقَوْلِهِ: {أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} (الْأَعْرَافِ: 195) فَإِنَّ ظَاهِرَهُ نَفْيُ هَذِهِ الْجَوَارِحِ، وَالْحَقِيقَةُ تُوجِبُ نَفْيَ الْآيَةِ عَمَّنْ يَكُونُ لَهُ فَضْلًا عَمَّنْ لَا يَكُونُ لَهُ. وَقَوْلُهُ: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} (لُقْمَانَ: 15) فَالْمُرَادُ: لَا ذَاكَ وَلَا عِلْمَكَ بِهِ، أَيْ: كِلَاهُمَا غَيْرُ ثَابِتٍ. وَقَوْلُهُ: {بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} (آلِ عِمْرَانَ: 151) أَيْ: شُرَكَاءَ لَا ثُبُوتَ لَهَا أَصْلًا، وَلَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِإِشْرَاكِهَا حُجَّةً. أَيْ تِلْكَ، وَإِنْزَالُ الْحُجَّةِ كِلَاهُمَا مُنْتَفٍ. وَقَوْلُهُ: {أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ} (يُونُسَ: 18) أَيْ: مَا لَا ثُبُوتَ لَهُ وَلَا عِلْمُ اللَّهِ مُتَعَلِّقًا بِهِ، نَفْيًا لِلْمَلْزُومِ وَهُوَ النِّيَابَةُ بِنَفْيِ لَازِمِهِ، وَهُوَ وُجُوبُ كَوْنِهِ مَعْلُومًا لِلْعَالِمِ بِالذَّاتِ، لَوْ كَانَ لَهُ ثُبُوتٌ بِأَيِّ اعْتِبَارٍ كَانَ. وَقَوْلُهُ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} (آلِ عِمْرَانَ: 90) أَصْلُهُ: لَنْ يَتُوبُوا فَلَنْ يَكُونَ لَهُمْ قَبُولُ تَوْبَةٍ، فَأُوثِرَ الْإِلْحَاقُ ذَهَابًا إِلَى انْتِفَاءِ الْمَلْزُومِ بِانْتِفَاءِ اللَّازِمِ وَهُوَ قَبُولُ التَّوْبَةِ الْوَاجِبُ فِي حُكْمِهِ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ. وَقَوْلُهُ: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} (النُّورِ: 33) وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا إِكْرَاهَ عَلَى الْفَاحِشَةِ لِمَنْ لَا يُرِيدُ تَحَصُّنًا؛ لِأَنَّهَا نَزَلَتْ فِيمَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ. وَنَظِيرُهُ: {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} (آلِ عِمْرَانَ: 130) وَأَكْلُ الرِّبَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ قَلِيلًا وَكَثِيرًا، لَكِنَّهَا نَزَلَتْ عَلَى سَبَبٍ وَهُوَ فِعْلُهُمْ ذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ مَقَامُ تَشْنِيعٍ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ بِالْكَثِيرِ أَلْيَقُ. وَقَوْلُهُ: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ}... الْآيَةَ، الْمَعْنَى: آمَنَّا بِاللَّهِ دُونَ الْأَصْنَامِ وَسَائِرِ مَا يُدْعَى إِلَيْهِ دُونَهَا، إِلَّا أَنَّهُمْ نَفَوُا الْإِيمَانَ بِالْمَلَائِكَةِ وَالرُّسُلِ وَالْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ وَالدَّارِ الْآخِرَةِ وَالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَلِهَذَا إِنَّهُ لَمَّا رَدَّ بِقَوْلِهِ: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} (غَافِرٍ: 85) بَعْدَ إِثْبَاتِهِ إِيمَانَهُمْ؛ لِأَنَّهُ ضَرُورِيٌّ لَا اخْتِيَارِيٌّ أَوْجَبَ أَلَّا يَكُونَ الْكَلَامُ مَسُوقًا لِنَفْيِ أُمُورٍ يُرَاعَى فِيهَا الْحَصْرُ وَالتَّقْيِيدُ؛ كَقَوْلِهِ: {قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا} (الْمُلْكِ: 29) فَإِنَّهُ لَمْ يُقَدِّمِ الْمَفْعُولَ فِي " آمَنَّا " حَيْثُ لَمْ يُرِدْ ذَلِكَ الْمَعْنَى، فَرُكِّبَ تَرْكِيبًا يُوهِمُ إِفْرَادَ الْإِيمَانِ بِالرَّحْمَنِ عَنْ سَائِرِ مَا يَلْزَمُ مِنَ الْإِيمَانِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} (الْأَعْرَافِ: 33) فَقِيلَ مِنْ هَذَا الْبَابِ فَهِيَ صِفَةٌ لَازِمَةٌ، وَقِيلَ: التَّكَبُّرُ قَدْ يَكُونُ بِحَقٍّ، وَهُوَ التَّنَزُّهُ عَنِ الْفَوَاحِشِ وَالدَّنَايَا، وَالتَّبَاعُدُ مِنْ فِعْلِهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} (الْأَعْرَافِ: 33) فَإِنْ أُرِيدَ بِالْبَغْيِ الظُّلْمُ كَانَ قَوْلُهُ: (بِغَيْرِ الْحَقِّ) تَأْكِيدًا، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الطَّلَبُ كَانَ قَيْدًا.
قَاعِدَةٌ: اعْلَمْ أَنَّ نَفْيَ الْعَامِّ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْخَاصِّ، وَثُبُوتَهُ لَا يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِهِ، وَثُبُوتَ الْخَاصِّ يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ الْعَامِّ، وَلَا يَدُلُّ نَفْيُهُ عَلَى نَفْيِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ زِيَادَةَ الْمَفْهُومِ مِنَ اللَّفْظِ تُوجِبُ الِالْتِذَاذَ بِهِ، فَلِذَلِكَ كَانَ نَفْيُ الْعَامِّ أَحْسَنَ مِنْ نَفْيِ الْخَاصِّ، وَإِثْبَاتُ الْخَاصِّ أَحْسَنَ مِنْ إِثْبَاتِ الْعَامِّ. فَالْأَوَّلُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} (الْبَقَرَةِ: 17) وَلَمْ يَقُلْ: بِضَوْئِهِمْ. بَعْدَ قَوْلِهِ: أَضَاءَتْ. لِأَنَّ النُّورَ أَعَمُّ مِنَ الضَّوْءِ، إِذْ يُقَالُ عَلَى الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، وَإِنَّمَا يُقَالُ (الضَّوْءُ) عَلَى النُّورِ الْكَثِيرِ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا} (يُونُسَ: 5) فَفِي الضَّوْءِ دَلَالَةٌ عَلَى الزِّيَادَةِ، فَهُوَ أَخَصُّ مِنَ النُّورِ، وَعَدَمُهُ لَا يُوجِبُ عَدَمَ الضَّوْءِ، لِاسْتِلْزَامِ عَدَمِ الْعَامِّ عَدَمَ الْخَاصِّ، فَهُوَ أَبْلَغُ مِنَ الْأَوَّلِ، وَالْغَرَضُ إِزَالَةُ النُّورِ عَنْهُمْ أَصْلًا، أَلَا تَرَى ذِكْرَهُ بَعْدَهُ {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ} (الْبَقَرَةِ: 17). وَهَاهُنَا دَقِيقَةٌ، وَهِيَ أَنَّهُ قَالَ: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} (الْبَقَرَةِ: 17) وَلَمْ يَقُلْ: " أَذْهَبَ نُورَهُمْ " لِأَنَّ الْإِذْهَابَ بِالشَّيْءِ إِشْعَارٌ لَهُ بِمَنْعِ عَوْدَتِهِ، بِخِلَافِ الذَّهَابِ؛ إِذْ يُفْهَمُ مِنَ الْكَثِيرِ اسْتِصْحَابُهُ فِي الذَّهَابِ، وَمُقْتَضَى ذَلِكَ مَنْعُهُ مِنَ الرُّجُوعِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ} (الْأَعْرَافِ: 61) وَلَمْ يَقُلْ: " ضَلَالٌ " كَمَا قَالُوا: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ} (الْأَعْرَافِ: 60) لِأَنَّ نَفْيَ الْوَاحِدِ يَلْزَمُ مِنْهُ نَفْيُ الْجِنْسِ الْبَتَّةَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: " لِأَنَّ الضَّلَالَةَ أَخَصُّ مِنَ الضَّلَالِ فَكَانَ أَبْلَغَ فِي نَفْيِ الضَّلَالِ عَنْهُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ بِي شَيْءٌ مِنَ الضَّلَالِ، كَمَا لَوْ قِيلَ لَكَ: لَكَ تَمْرٌ؟ فَقُلْتَ: مَا لِي تَمْرَةٌ. وَنَازَعَهُ ابْنُ الْمُنَيِّرِ، وَقَالَ: تَعْلِيلُهُ نَفْيَهَا أَبْلَغُ مِنْ نَفْيِ الضَّلَالِ؛ لِأَنَّهَا أَخَصُّ مِنْهُ، وَهَذَا غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ، فَإِنَّ نَفْيَ الْأَعَمِّ أَخَصُّ مَنْ نَفْيِ الْأَخَصِّ، وَنَفْيَ الْأَخَصِّ أَعَمُّ مِنْ نَفْيِ الْأَعَمِّ، فَلَا يَسْتَلْزِمُهُ؛ لِأَنَّ الْأَعَمَّ لَا يَسْتَلْزِمُ الْأَخَصَّ، فَإِذَا قُلْتَ: هَذَا لَيْسَ بِإِنْسَانٍ. لَمْ يَلْزَمْ سَلْبُ الْحَيَوَانِيَّةِ عَنْهُ، وَإِذَا قُلْتَ: هَذَا لَيْسَ بِحَيَوَانٍ لَمْ يَكُنْ إِنْسَانًا، وَالْحَقُّ أَنْ يُقَالَ: الضَّلَالَةُ أَدْنَى مِنَ الضَّلَالِ؛ لِأَنَّهَا لَا تُطْلَقُ إِلَّا عَلَى الْفِعْلَةِ مِنْهُ، وَالضَّلَالُ يَصْلُحُ لِلْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، وَنَفْيُ الْأَدْنَى أَبْلَغُ مِنْ نَفْيِ الْأَعْلَى، لَا مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ أَخَصَّ بَلْ مِنْ بَابِ التَّنْبِيهِ بِالْأَدْنَى عَلَى الْأَعْلَى. وَالثَّانِي كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} (آلِ عِمْرَانَ: 133) وَلَمْ يَقُلْ: طُولُهَا؛ لِأَنَّ الْعَرْضَ أَخَصُّ؛ إِذْ كُلُّ مَا لَهُ عَرْضٌ فَلَهُ طُولٌ وَلَا يَنْعَكِسُ، وَأَيْضًا إِذَا كَانَ لِلشَّيْءِ صِفَةٌ يُغْنِي ذِكْرُهَا عَنْ ذِكْرِ صِفَةٍ أُخْرَى تَدُلُّ عَلَيْهَا كَانَ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهَا أَوْلَى مِنْ ذِكْرِهَا؛ لِأَنَّ ذِكْرَهَا كَالتَّكْرَارِ وَهُوَ مُمِلٌّ، وَإِذَا ذُكِرَتْ فَالْأَوْلَى تَأْخِيرُ الدَّلَالَةِ عَلَى الْأُخْرَى حَتَّى لَا تَكُونَ الْمُؤَخَّرَةُ قَدْ تَقَدَّمَتِ الدَّلَالَةُ عَلَيْهَا. وَقَدْ يُخِلُّ بِذَلِكَ مَقْصُودٌ آخَرُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} (مَرْيَمَ: 51) لِأَجْلِ السَّجْعِ، وَإِذَا كَانَ ثُبُوتُ شَيْءٍ أَوْ نَفْيُهُ يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ آخَرَ أَوْ نَفْيِهِ كَانَ الْأَوْلَى الِاقْتِصَارَ عَلَى الدَّالِّ عَلَى الْآخَرِ، فَإِنْ ذُكِرَتْ فَالْأَوْلَى تَأْخِيرُ الدَّالِّ. وَقَدْ يُخِلُّ بِذَلِكَ لِمَقْصُودٍ آخَرَ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} (الْكَهْفِ: 49) وَعَلَى قِيَاسِ مَا قُلْنَا يَنْبَغِي الِاقْتِصَارُ عَلَى صَغِيرَةٍ، وَإِنْ ذُكِرَتِ الْكَبِيرَةُ مِنْهَا فَلْتُذْكَرْ أَوَّلًا. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ [تَعَالَى]: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا} (الْإِسْرَاءِ: 23) وَعَلَى ذَلِكَ الْقِيَاسِ يَكْفِي " لَهُمَا أُفٍّ " أَوْ يَقُولُ " {وَلَا تَنْهَرْهُمَا}، {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} "، وَإِنَّمَا عَدَلَ عَنْ ذَلِكَ لِلِاهْتِمَامِ بِالنَّهْيِ عَنِ التَّأْفِيفِ، وَالْعِنَايَةِ بِالنَّهْيِ؛ حَتَّى كَأَنَّهُ قَالَ: نَهَى عَنْهُ مَرَّتَيْنِ: مَرَّةً بِالْمَفْهُومِ وَأُخْرَى بِالْمَنْطُوقِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} (الْبَقَرَةِ: 255) فَإِنَّ النَّوْمَ غَشْيَةٌ ثَقِيلَةٌ تَقَعُ عَلَى الْقَلْبِ تَمْنَعُهُ مَعْرِفَةَ الْأَشْيَاءِ، وَالسِّنَةُ مِمَّا يَتَقَدَّمُهُ مِنَ النُّعَاسِ، فَلَمْ يَكْتَفِ بِقَوْلِهِ: {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ} (الْبَقَرَةِ: 255) دُونَ ذِكْرِ النَّوْمِ؛ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ السِّنَةَ إِنَّمَا لَمْ تَأْخُذْهُ لِضَعْفِهَا؛ وَيُتَوَهَّمَ أَنَّ النَّوْمَ قَدْ يَأْخُذُهُ لِقُوَّتِهِ؛ فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا لِنَفْيِ التَّوَهُّمَيْنِ، أَوِ السِّنَةُ فِي الرَّأْسِ، وَالنُّعَاسُ فِي الْعَيْنِ، وَالنَّوْمُ فِي الْقَلْبِ، تَلْخِيصُهُ: هُوَ مُنَزَّهٌ عَنْ جَمِيعِ الْمُفَتِّرَاتِ، ثُمَّ أَكَّدَ نَفْيَ السِّنَةِ وَالنَّوْمِ بِقَوْلِهِ: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} (الْبَقَرَةِ: 255) لِأَنَّهُ خَلَقَهُمَا بِمَا فِيهِمَا، وَالْمُشَارَكَةُ إِنَّمَا تَقَعُ فِيمَا فِيهِمَا، وَمَنْ يَكُنْ لَهُ مَا فِيهِمَا فَمُحَالٌ نَوْمُهُ وَمُشَارَكَتُهُ؛ إِذْ لَوْ وُجِدَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَفَسَدَتَا بِمَا فِيهِمَا. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ السِّنَةِ نَفْيُ النَّوْمِ، أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ: لَا يَنَامُ، وَإِنَّمَا قَالَ: {لَا تَأْخُذُهُ} (الْبَقَرَةِ: 255) يَعْنِي لَا تَغْلِبُهُ؛ فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: لَا يَغْلِبُهُ الْقَلِيلُ وَلَا الْكَثِيرُ مِنَ النَّوْمِ، وَالْأَخْذُ فِي اللُّغَةِ بِمَعْنَى الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الْأَسِيرُ مَأْخُوذًا وَأَخِيذًا، وَزِيدَتْ (لَا) فِي قَوْلِهِ: (وَلَا نَوْمٌ) لِنَفْيِهِمَا عَنْهُ بِكُلِّ حَالٍ، وَلَوْلَاهَا لَاحْتَمَلَ أَنْ يُقَالَ: {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ، وَإِذَا ذُكِرَتْ صِفَاتٌ فَإِنْ كَانَتْ لِلْمَدْحِ فَالْأَوْلَى الِانْتِقَالُ فِيهَا مِنَ الْأَدْنَى إِلَى الْأَعْلَى لِيَكُونَ الْمَدْحُ مُتَزَايِدًا بِتَزَايُدِ الْكَلَامِ، فَيَقُولُونَ: فَقِيهٌ عَالِمٌ، وَشُجَاعٌ بَاسِلٌ، وَجَوَّادٌ فَيَّاضٌ، وَلَا يَعْكِسُونَ هَذَا لِفَسَادِ الْمَعْنَى؛ لِأَنَّهُ لَوْ تَقَدَّمَ الْأَبْلَغُ لَكَانَ الثَّانِي دَاخِلًا تَحْتَهُ، فَلَمْ يَكُنْ لِذِكْرِهِ مَعْنًى، وَلَا يُوصَفُ بِالْعَالِمِ بَعْدَ الْوَصْفِ بِالْعَلَّامِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْأُدَبَاءُ فِي الْوَصْفِ بِالْفَاضِلِ وَالْكَامِلِ أَيُّهُمَا أَبْلَغُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ؛ ثَالِثُهُمَا: أَنَّهُمَا سَوَاءٌ. قَالَ الْأُقْلِيشِيُّ: وَالْحَقُّ أَنَّكَ مَهْمَا نَظَرْتَ إِلَى شَخْصٍ فَوَجَدْتَهُ- مَعَ شَرَفِ الْعَقْلِ وَالنَّفْسِ- كَرِيمَ الْأَخْلَاقِ وَالسَّجَايَا، مُعْتَدِلَ الْأَفْعَالِ وَصَفْتَهُ بِالْكَمَالِ، وَإِنْ وَجَدْتَهُ وَصَلَ إِلَى هَذِهِ الرُّتَبِ بِالْكَسْبِ وَالْمُجَاهَدَةِ، وَإِمَاطَةِ الرَّذَائِلِ وَصَفْتَهُ بِالْفَضْلِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُمَا مُتَضَادَّانِ، فَلَا يُوصَفُ الشَّخْصُ الْوَاحِدُ بِهِمَا إِلَّا بِتَجَوُّزٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} (الْمُؤْمِنُونَ: 92) إِنَّمَا قُدِّمَ الْغَيْبُ مَعَ أَنَّ عِلْمَ الْمُغَيَّبَاتِ أَشْرَفُ مِنَ الْمُشَاهَدَاتِ، وَالتَّمَدُّحَ بِهِ أَعْظَمُ، وَعِلْمُ الْبَيَانِ يَقْتَضِي تَأْخِيرَ الْأَمْدَحِ. وَأَجَابَ بِأَنَّ الْمُشَاهَدَاتِ لَهُ أَكْثَرُ مِنَ الْغَائِبِ عَنَّا، وَالْعِلْمُ يَشْرُفُ بِكَثْرَةِ مُتَعَلَّقَاتِهِ، فَكَانَ تَأْخِيرُ الشَّهَادَةِ أَوْلَى. وَقَوْلُ الشَّيْخِ: إِنَّ الْمُشَاهَدَاتِ لَهُ أَكْثَرُ، فِيهِ نَظَرٌ، بَلْ فِي غَيْبِهِ مَا لَا يُحْصَى {وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (النَّحْلِ: 8) وَإِنَّمَا الْجَوَابُ أَنَّ الِانْتِقَالَ لِلْأَمْدَحِ تَرَقٍّ؛ فَالْمَقْصُودُ هُنَا بَيَانُ أَنَّ الْغَيْبَ وَالشَّهَادَةَ فِي عِلْمِهِ سَوَاءٌ، فَنَزَلَ التَّرَقِّي فِي اللَّفْظِ مَنْزِلَةَ تَرَقٍّ فِي الْمَعْنَى؛ لِإِفَادَةِ اسْتِوَائِهِمَا فِي عِلْمِهِ تَعَالَى، وَيُوَضِّحُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ} (الرَّعْدِ: 10) فَصَرَّحَ بِالِاسْتِوَاءِ. هَذَا كُلُّهُ فِي الصِّفَاتِ، وَأَمَّا الْمَوْصُوفَاتُ فَعَلَى الْعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّكَ تَبْدَأُ بِالْأَفْضَلِ فَتَقُولُ: قَامَ الْأَمِيرُ وَنَائِبُهُ وَكَاتِبُهُ، قَالَ تَعَالَى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا}... (النَّحْلِ: 8) الْآيَةَ، فَقَدَّمَ الْخَيْلَ لِأَنَّهَا أَحْمَدُ وَأَفْضَلُ مِنَ الْبِغَالِ، وَقَدَّمَ الْبِغَالَ عَلَى الْحَمِيرِ لِذَلِكَ أَيْضًا. فَإِنْ قُلْتَ: قَاعِدَةُ الصِّفَاتِ مَنْقُوضَةٌ بِالْقَاعِدَةِ الْأُخْرَى؛ وَهِيَ أَنَّهُمْ يُقَدِّمُونَ الْأَهَمَّ فَالْأَهَمَّ فِي كَلَامِهِمْ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ سِيبَوَيْهِ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: أَبَى دَهْرُنَا إِسْعَافَنَا فِي نُفُوسِنَا *** وَأَسْعَفَنَا فِيمَنْ نُحِبُّ وَنُكْرِمُ فَقُلْتُ لَهُ نُعْمَاكَ فِيهِمْ أَتِمَّهَا *** وَدَعْ أَمْرَنَا إِنَّ الْمُهِمَّ الْمُقَدَّمُ قُلْتُ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: " فَقَدَّمَ الْأَهَمَّ فَالْأَهَمَّ " فِيمَا إِذَا كَانَا شَيْئَيْنِ مُتَغَايِرَيْنِ مَقْصُودَيْنِ، وَأَحَدُهُمَا أَهَمُّ مِنَ الْآخَرِ، فَإِنَّهُ يُقَدَّمُ، وَأَمَّا تَأَخُّرُ الْأَمْدَحِ فِي الصِّفَاتِ فَذَلِكَ فِيمَا إِذَا كَانَتَا صِفَتَيْنِ لِشَيْءٍ وَاحِدٍ، فَلَوْ أَخَّرْنَا الْأَمْدَحَ لَكَانَ تَقْدِيمُ الْأَوَّلِ نَوْعًا مِنَ الْعَبَثِ. هَذَا كُلُّهُ فِي صِفَاتِ الْمَدْحِ، فَإِنْ كَانَتْ لِلذَّمِّ فَقَدْ قَالُوا: يَنْبَغِي الِابْتِدَاءُ بِالْأَشَدِّ ذَمًّا؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} (النَّحْلِ: 98) قَالَ ابْنُ النَّفِيسِ فِي كِتَابِ " طَرِيقِ الْفَصَاحَةِ ": وَهُوَ عِنْدِي مُشْكِلٌ. وَلَمْ يَذْكُرْ تَوْجِيهَهُ. وَقَالَ حَازِمٌ فِي " مِنْهَاجِهِ ": يُبْدَأُ فِي الْحَسَنِ بِمَا ظُهُورُ الْحُسْنِ فِيهِ أَوْضَحُ، وَمَا النَّفْسُ بِتَقْدِيمِهِ أَعْنَى، وَيُبْدَأُ فِي الذَّمِّ بِمَا ظُهُورُ الْقُبْحِ فِيهِ أَوْضَحُ، وَالنَّفْسُ بِالِالْتِفَاتِ إِلَيْهِ أَعْنَى، وَيُتَنَقَّلُ فِي الشَّيْءِ إِلَى مَا يَلِيهِ مِنَ الْمَزِيَّةِ فِي ذَلِكَ، وَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْمُصَوِّرِ الَّذِي يُصَوِّرُ أَوَّلًا مَا حَلَّ مِنْ رُسُومِ تَخْطِيطِ الشَّيْءِ، ثُمَّ يَنْتَقِلُ إِلَى الْأَدَقِّ فَالْأَدَقِّ.
فَائِدَةٌ نَفْيُ الِاسْتِطَاعَةِ قَدْ يُرَادُ بِهِ نَفْيُ الِامْتِنَاعِ، أَوْ عَدَمُ إِمْكَانِ وُقُوعِ الْفِعْلِ مَعَ إِمْكَانِهِ؛ نَحْوُ: هَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُكَلِّمَنِي؟ بِمَعْنَى: هَلْ تَفْعَلُ ذَلِكَ؟ وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْفِعْلِ. وَقَدْ حُمِلَ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنِ الْحَوَارِيِّينَ: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ} (الْمَائِدَةِ: 112) عَلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ، أَيْ: هَلْ يُجِيبُنَا إِلَيْهِ؟ أَوْ: هَلْ يَفْعَلُ رَبُّكَ؟ وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى الْإِنْزَالِ، وَأَنَّ عِيسَى قَادِرٌ عَلَى السُّؤَالِ، وَإِنَّمَا اسْتَفْهَمُوا هَلْ هُنَا صَارِفٌ أَوْ مَانِعٌ؟. وَقَوْلُهُ: {فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً} (يس: 50) {فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا} (الْأَنْبِيَاءِ: 40) {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} (الْكَهْفِ: 97). وَقَدْ يُرَادُ بِهِ الْوُقُوعُ بِمَشَقَّةٍ وَكُلْفَةٍ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} (الْكَهْفِ: 67). فَائِدَةٌ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} (الْأَنْفَالِ: 17) قَالُوا: الْمَجَازُ يَصِحُّ نَفْيُهُ بِخِلَافِ الْحَقِيقَةِ، لَا يُقَالُ لِلْأَسَدِ: لَيْسَ بِشُجَاعٍ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالرَّمْيِ هُنَا الْمُرَتَّبُ عَلَيْهِ، وَهُوَ وُصُولُهُ إِلَى الْكُفَّارِ؛ فَالْوَارِدُ عَلَيْهِ السَّلْبُ هُنَا مَجَازٌ لَا حَقِيقَةٌ؛ وَالتَّقْدِيرُ: وَمَا رَمَيْتَ خَلْقًا إِذْ رَمَيْتَ كَسْبًا، أَوْ: مَا رَمَيْتَ انْتِهَاءً إِذْ رَمَيْتَ ابْتِدَاءً؛ وَمَا رَمَيْتَ مَجَازًا إِذْ رَمَيْتَ حَقِيقَةً.
إِخْرَاجُ الْكَلَامِ مَخْرَجَ الشَّكِّ فِي اللَّفْظِ دُونَ الْحَقِيقَةِ لِضَرْبٍ مِنَ الْمُسَامَحَةِ وَحَسْمِ الْعِنَادِ كَقَوْلِهِ: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (سَبَأٍ: 24) وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ عَلَى الْهُدَى، وَأَنَّهُمْ عَلَى الضَّلَالِ، لَكِنَّهُ أَخْرَجَ الْكَلَامَ مَخْرَجَ الشَّكِّ، تَقَاضِيًا وَمُسَامَحَةً، وَلَا شَكَّ عِنْدَهُ وَلَا ارْتِيَابَ. وَقَوْلِهِ: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} (الزُّخْرُفِ: 81). وَنَحْوِهِ: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} (مُحَمَّدٍ: 22) أَوْرَدَهُ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِفْهَامِ، وَالْمَعْنَى: هَلْ يُتَوَقَّعُ مِنْكُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أُمُورَ النَّاسِ وَتَأَمَّرْتُمْ عَلَيْهِمْ لِمَا تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنَ الْمَشَاهِدِ وَلَاحَ مِنْكُمْ فِي الْمَخَايِلِ {أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} (مُحَمَّدٍ: 22) تَهَالُكًا عَلَى الدُّنْيَا؟. وَإِنَّمَا أَوْرَدَ الْكَلَامَ فِي الْآيَةِ عَلَى طَرِيقِ سَوْقِ غَيْرِ الْمَعْلُومِ سِيَاقَ غَيْرِهِ؛ لِيُؤَدِّيَهُمُ التَّأَمُّلُ فِي التَّوَقُّعِ عَمَّنْ يَتَّصِفُ بِذَلِكَ إِلَى مَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُسَبَّبًا عَنْهُ مِنْ أُولَئِكَ الَّذِينَ أَصَمَّهُمُ اللَّهُ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ، فَيُلْزِمُهُمْ بِهِ عَلَى أَلْطَفِ وَجْهٍ؛ إِبْقَاءً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْ يُفَاجِئَهُمْ بِهِ وَتَأْلِيفًا لِقُلُوبِهِمْ، وَلِذَلِكَ الْتَفَتَ عَنِ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ تَفَادِيًا عَنْ مُوَاجَهَتِهِمْ بِذَلِكَ. وَقَدْ يَخْرُجُ الْوَاجِبُ فِي صُورَةِ الْمُمْكِنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} (الْإِسْرَاءِ: 79). {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ} (الْمَائِدَةِ: 52). وَ{عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ} (الْإِسْرَاءِ: 8). {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} (الْبَقَرَةِ: 216) الْآيَةَ. وَقَدْ يَخْرُجُ الْإِطْلَاقُ فِي صُورَةِ التَّقْيِيدِ كَقَوْلِهِ: {حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} (الْأَعْرَافِ: 40). وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى حَاكِيًا عَنْ شُعَيْبٍ: {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا} (الْأَعْرَافِ: 89) فَالْمَعْنَى: لَا يَكُونُ أَبَدًا مِنْ حَيْثُ عَلَّقَهُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ؛ لِمَا كَانَ مَعْلُومًا أَنَّهُ لَا يَشَاؤُهُ؛ إِذْ يَسْتَحِيلُ ذَلِكَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، وَكُلُّ أَمْرٍ قَدْ عُلِّقَ بِمَا لَا يَكُونُ فَقَدْ نُفِيَ كَوْنُهُ عَلَى أَبْعَدِ الْوُجُوهِ. وَقَالَ قُطْرُبٌ: فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنَ الْكُفَّارِ لَا مِنْ شُعَيْبٍ، وَالْمَعْنَى: {لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا فِي مِلَّتِهِمْ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى حَاكِيًا عَنْ شُعَيْبٍ: {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا} (الْأَعْرَافِ: 89) عَلَى كُلِّ حَالٍ. وَقِيلَ: الْهَاءُ عَائِدَةٌ إِلَى الْقَرْيَةِ لَا إِلَى اللَّهِ.
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} (النِّسَاءِ: 100) أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِ مِقْدَارِ الْجَزَاءِ وَالثَّوَابِ، وَذَكَرَ مَا هُوَ مَعْلُومٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ جَمِيعِ أَعْمَالِ الْبَشَرِ تَفْخِيمًا لِمِقْدَارِ الْجَزَاءِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ إِبْهَامِ الْمِقْدَارِ، وَتَنْزِيلًا لَهُ مَنْزِلَةَ مَا هُوَ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَى بَيَانِهِ عَلَى حَدِّ: فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِ الْجَزَاءِ إِلَى إِعَادَةِ الشَّرْطِ تَنْبِيهًا عَلَى عِظَمِ مَا يَنَالُ، وَتَفْخِيمًا لِبَيَانِ مَا أَتَى بِهِ مِنَ الْعَمَلِ، فَصَارَ السُّكُوتُ عَنْ مَرْتَبَةِ الثَّوَابِ أَبْلَغَ مِنْ ذِكْرِهَا. وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} (الْكَهْفِ: 30) وَهَذِهِ الْآيَةُ تَتَضَمَّنُ الرُّجُوعَ وَالْبَقَاءَ وَالْجَمْعَ، أَلَا تَرَاهُ كَيْفَ رَجَعَ بَعْدَ ذِكْرِهِ الْمُبْتَدَأَ الَّذِي هُوَ (الَّذِينَ) عَنْ ذِكْرِ خَبَرِهِ إِلَى الشُّرُوعِ فِي كَلَامٍ آخَرَ، فَبَنَى مُبْتَدَأً عَلَى مُبْتَدَأٍ وَجَمَعَ، وَالْمَعْنَى قَوْلُهُ: {إِنَّا لَا نُضِيعُ} (الْكَهْفِ: 30) مِنْ خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ الْأَوَّلِ، وَتَقْدِيرُهُ: إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَهُمْ؛ لِأَنَّا {لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا}.
وَهُوَ أَنْ يَأْتِيَ الْغَيْرُ بِكَلَامٍ يَتَضَمَّنُ مَعْنًى فَتَأْتِيَ بِضِدِّهِ؛ الْهَدْمُ فِي لُغَةِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ فَإِنَّكَ قَدْ هَدَمْتَ مَا بَنَاهُ الْمُتَكَلِّمُ الْأَوَّلُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} (الْمَائِدَةِ: 18) هَدَمَهُ بِقَوْلِهِ: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ} (الْمُؤْمِنُونَ: 91) وَبِقَوْلِهِ: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} (آلِ عِمْرَانَ: 57) وَبِقَوْلِهِ: {فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} (الْمَائِدَةِ: 18) تَقْدِيرُهُ: إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فِي دَعْوَاكُمْ. وَمِنْهُ: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} (التَّوْبَةِ: 30) هَدَمَهُ بِقَوْلِهِ: {ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ} (التَّوْبَةِ: 30) وَقَوْلِهِ: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ} (الْمُؤْمِنُونَ: 91). وَمِنْهُ: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} (الْمُنَافِقُونَ: 1) هَدَمَهُ بِقَوْلِهِ: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} (الْمُنَافِقُونَ: 1) أَيْ: فِي دَعْوَاهُمُ الشَّهَادَةَ.
مِنْهُ الِاسْتِدْلَالُ بِالنَّظَرِ فِي الْمَلَكُوتِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لِآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (الْبَقَرَةِ: 164). وَيَكْثُرُ ذَلِكَ فِي تَقْرِيرَاتِ الْعَقَائِدِ الْإِلَهِيَّةِ؛ لِتَتَمَكَّنَ فِي النُّفُوسِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} (الْقِيَامَةِ: 40) وَذَلِكَ بَعْدَ ذِكْرِ النُّطْفَةِ وَتَقَلُّبِهَا فِي مَرَاتِبِ الْوُجُودِ وَتَطَوُّرَاتِ الْخِلْقَةِ. وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (الزُّمَرِ: 67). وَمِنْهُ التَّوَسُّعُ فِي تَرَادُفِ الصِّفَاتِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} (النُّورِ: 40) فَإِنَّهُ لَوْ أُرِيدَ اخْتِصَارُهُ لَكَانَ: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ} (النُّورِ: 40) مُظْلِمٍ. وَمِنْهُ التَّوَسُّعُ فِي الذَّمِّ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} (الْقَلَمِ: 10- 11) إِلَى قَوْلِهِ: {عَلَى الْخُرْطُومِ} (الْقَلَمِ: 16).
اتَّفَقَ الْأُدَبَاءُ عَلَى شَرَفِهِ فِي أَنْوَاعِ الْبَلَاغَةِ، وَأَنَّهُ إِذَا جَاءَ فِي أَعْقَابِ الْمَعَانِي أَفَادَهَا كَمَالًا، وَكَسَاهَا حُلَّةً وَجَمَالًا، قَالَ الْمُبَرِّدُ فِي " الْكَامِلِ ": هُوَ جَارٍ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، حَتَّى لَوْ قَالَ قَائِلٌ: هُوَ أَكْثَرُ كَلَامِهِمْ لَمْ يَبْعُدْ. وَقَدْ صَنَّفَ فِيهِ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ الْبُنْدَارِ الْبَغْدَادِيُّ كِتَابَ " الْجُمَانُ فِي تَشْبِيهَاتِ الْقُرْآنِ ". وَفِيهِ مَبَاحِثُ:
وَهُوَ إِلْحَاقُ شَيْءٍ بِذِي وَصْفٍ فِي وَصْفِهِ تَعْرِيفُ التَّشْبِيهِ. وَقِيلَ: أَنْ [تُثْبِتَ] لِلْمُشَبَّهِ حُكْمًا مِنْ أَحْكَامِ الْمُشَبَّهِ بِهِ. وَقِيلَ: الدَّلَالَةُ عَلَى اشْتِرَاكِ شَيْئَيْنِ فِي وَصْفٍ هُوَ مِنْ أَوْصَافِ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ فِي نَفْسِهِ؛ كَالطِّيبِ فِي الْمِسْكِ وَالضِّيَاءِ فِي الشَّمْسِ، وَالنُّورِ فِي الْقَمَرِ، وَهُوَ حُكْمٌ إِضَافِيٌّ لَا يَرِدُ إِلَّا بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ بِخِلَافِ الِاسْتِعَارَةِ.
وَهُوَ تَأْنِيسُ النَّفْسِ بِإِخْرَاجِهَا مِنْ خَفِيٍّ إِلَى جَلِيٍّ؛ وَإِدْنَائِهِ الْبَعِيدَ مِنَ الْقَرِيبِ لِيُفِيدَ بَيَانًا. وَقِيلَ: الْكَشْفُ عَنِ الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ مَعَ الِاخْتِصَارِ؛ فَإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ: زَيْدٌ أَسَدٌ، كَانَ الْغَرَضُ بَيَانَ حَالِ زَيْدٍ، وَأَنَّهُ مُتَّصِفٌ بِقُوَّةِ الْبَطْشِ وَالشَّجَاعَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، إِلَّا أَنَّا لَمْ نَجِدْ شَيْئًا يَدُلُّ عَلَيْهِ سِوَى جَعْلِنَا إِيَّاهُ شَبِيهًا بِالْأَسَدِ، حَيْثُ كَانَتْ هَذِهِ الصِّفَاتُ مُخْتَصَّةً بِهِ، فَصَارَ هَذَا أَبْيَنَ وَأَبْلَغَ مِنْ قَوْلِنَا: زَيْدٌ شَهْمٌ شُجَاعٌ قَوِيُّ الْبَطْشِ وَنَحْوِهِ.
وَالْمُحَقِّقُونَ عَلَى أَنَّهُ حَقِيقَةٌ، قَالَ الزِّنْجَانِيُّ فِي " الْمِعْيَارِ ": التَّشْبِيهُ لَيْسَ بِمَجَازٍ؛ لِأَنَّهُ مَعْنًى مِنَ الْمَعَانِي، وَلَهُ أَلْفَاظٌ تَدُلُّ عَلَيْهِ وَضْعًا، فَلَيْسَ فِيهِ نَقْلُ اللَّفْظِ عَنْ مَوْضُوعِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ تَوْطِئَةٌ لِمَنْ سَلَكَ سَبِيلَ الِاسْتِعَارَةِ وَالتَّمْثِيلِ؛ لِأَنَّهُ كَالْأَصْلِ لَهُمَا، وَهُمَا كَالْفَرْعِ لَهُ، وَالَّذِي يَقَعُ مِنْهُ فِي حَيِّزِ الْمَجَازِ عِنْدَ الْبَيَانِيِّينَ هُوَ الَّذِي يَجِيءُ عَلَى حَدِّ الِاسْتِعَارَةِ. وَتَوَسَّطَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ فَقَالَ: إِنْ كَانَ بِحَرْفٍ فَهُوَ حَقِيقَةٌ، أَوْ بِحَذْفِهِ فَمَجَازٌ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْحَذْفَ مِنْ بَابِ الْمَجَازِ.
وَهِيَ أَسْمَاءٌ وَأَفْعَالٌ وَحُرُوفٌ أَدَوَاتُ التَّشْبِيهِ. فَالْأَسْمَاءُ: مَثَلٌ، وَشَبَهٌ، وَنَحْوُهُمَا، قَالَ تَعَالَى: {مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ} (آلِ عِمْرَانَ: 117) {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى} (هُودٍ: 24) {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} (الْبَقَرَةِ: 25) {إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} (الْبَقَرَةِ: 70). وَالْأَفْعَالُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً} (النُّورِ: 39) {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} (طه: 66). وَالْحُرُوفُ إِمَّا بَسِيطَةٌ كَالْكَافِ نَحْوُ: {كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ} (إِبْرَاهِيمَ: 18) {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ} (آلِ عِمْرَانَ: 11) وَإِمَّا مُرَكَّبَةٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} (الصَّافَّاتِ: 65).
وَهُوَ يَنْقَسِمُ بِاعْتِبَارَاتٍ: الْأَوَّلُ أَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُشَبَّهَ بِحَرْفٍ، أَوْ لَا. وَتَشْبِيهُ الْحَرْفِ مِنْ أَقْسَامِ التَّشْبِيهِ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: يَدْخُلُ عَلَيْهِ حَرْفُ التَّشْبِيهِ فَقَطْ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ} (النُّورِ: 35) وَقَوْلِهِ: {وَلَهُ الْجَوَارِي الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ} (الرَّحْمَنِ: 24). {فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} (الرَّحْمَنِ: 37). {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} (الرَّحْمَنِ: 14). {وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} (الْوَاقِعَةِ: 22- 23). {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} (الْحَدِيدِ: 21). وَثَانِيهَا: أَنْ يُضَافَ إِلَى حَرْفِ التَّشْبِيهِ حَرْفٌ مُؤَكِّدٌ؛ لِيَكُونَ ذَلِكَ عَلَمًا عَلَى قُوَّةِ التَّشْبِيهِ وَتَأْكِيدِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ} (الرَّحْمَنِ: 58). {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ} (الصَّافَّاتِ: 49). {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ} (الْأَعْرَافِ: 171). {تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} (الْقَمَرِ: 20). {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} (الْحَاقَّةِ: 7). فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ اسْتَرْسَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} (الْبَقَرَةِ: 25) وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَيْسَ بِهِ، وَاحْتَرَزَتْ بِلْقِيسُ فَقَالَتْ: {كَأَنَّهُ هُوَ} (النَّمْلِ: 42) وَلَمْ تَقُلْ: هُوَ هُوَ؟ قِيلَ: أَهْلُ الْجَنَّةِ وَثِقُوا بِأَنَّ الْغَرَضَ مَفْهُومٌ، وَأَنْ أَحَدًا لَا يَعْتَقِدُ فِي الْحَاضِرِ أَنَّهُ عَيْنُ الْمُسْتَهْلَكِ الْمَاضِي، وَأَمَّا بِلْقِيسُ فَالْتَبَسَ عَلَيْهَا الْأَمْرُ وَظَنَّتْ أَنَّهُ يُشْبِهُهُ؛ لِأَنَّهَا بَنَتْ عَلَى الْعَادَةِ، وَهُوَ أَنَّ السَّرِيرَ لَا يَنْتَقِلُ مِنْ إِقْلِيمٍ إِلَى آخَرَ فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ. وَأَمَّا التَّشْبِيهُ بِغَيْرِ حَرْفٍ فَيُقْصَدُ بِهِ الْمُبَالَغَةُ؛ تَنْزِيلًا لِلثَّانِي مَنْزِلَةَ الْأَوَّلِ تَجَوُّزًا كَقَوْلِهِ: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} (الْأَحْزَابِ: 6). وَقَوْلِهِ: {وَسِرَاجًا مُنِيرًا} (الْأَحْزَابِ: 6). وَقَوْلِهِ: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} (آلِ عِمْرَانَ: 133). وَكَذَلِكَ: {تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} (النَّمْلِ: 88). وَجَعَلَ الْفَارِسِيُّ مِنْهُ قَوْلَهُ تَعَالَى: {قَوَارِيرَا قَوَارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ} (الْإِنْسَانِ: 15- 16) أَيْ: كَأَنَّهَا فِي بَيَاضِهَا مِنْ فِضَّةٍ، فَهُوَ عَلَى التَّشْبِيهِ لَا عَلَى أَنَّ الْقَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ بَيْضَاءَ (الصَّافَّاتِ: 45- 46) فَقَوْلُهُ: (بَيْضَاءَ) مِثْلُ قَوْلِهِ: مِنْ فِضَّةٍ
تَنْبِيهَانِ: الْأَوَّلُ: هَذَا الْقِسْمُ يُشْبِهُ الِاسْتِعَارَةَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا- كَمَا قَالَهُ حَازِمٌ وَغَيْرُهُ- أَنَّ الِاسْتِعَارَةَ وَإِنْ كَانَ فِيهَا مَعْنَى التَّشْبِيهِ فَتَقْدِيرُ حَرْفِ التَّشْبِيهِ لَا يَجُوزُ فِيهَا، وَالتَّشْبِيهُ بِغَيْرِ حَرْفٍ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ تَقْدِيرَ حَرْفِ التَّشْبِيهِ وَاجِبٌ فِيهِ. وَقَالَ الرُّمَّانِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً} (الْإِسْرَاءِ: 59) أَيْ: تَبْصِرَةً؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَقْدِيرُ حَرْفِ التَّشْبِيهِ فِيهَا. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْبَيَانِيُّونَ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} (الْبَقَرَةِ: 18) إِنَّهُ تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ أَوِ اسْتِعَارَةٌ؟ وَالْمُحَقِّقُونَ كَمَا قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ عَلَى الْأَوَّلِ، قَالَ: لِأَنَّ الْمُسْتَعَارَ لَهُ مَذْكُورٌ وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ، أَيْ: مَذْكُورٌ فِي تَقْدِيرِ الْآيَةِ، وَالِاسْتِعَارَةُ لَا يُذْكَرُ فِيهَا الْمُسْتَعَارُ لَهُ، وَيُجْعَلُ الْكَلَامُ خِلْوًا عَنْهُ، بِحَيْثُ يَصْلُحُ لِأَنْ يُرَادَ بِهِ الْمَنْقُولُ عَنْهُ وَالْمَنْقُولُ إِلَيْهِ، لَوْلَا الْقَرِينَةُ، وَمِنْ ثَمَّ تَرَى الْمُفْلِقِينَ السَّحَرَةَ مِنْهُمْ كَأَنَّهُمْ يَتَنَاسَوْنَ التَّشْبِيهَ وَيَضْرِبُونَ عَنْهُ صَفْحًا. وَقَالَ السَّكَّاكِيُّ: لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ الِاسْتِعَارَةِ إِمْكَانَ حَمْلِ الْكَلَامِ عَلَى الْحَقِيقَةِ فِي الظَّاهِرِ وَتَنَاسِي التَّشْبِيهِ، وَزَيْدٌ أَسَدٌ لَا يُمْكِنُ كَوْنُهُ حَقِيقَةً، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتِعَارَةً. الثَّانِي قَدْ يُتْرَكُ التَّشْبِيهُ لَفْظًا وَيُرَادُ مَعْنًى، إِذْ لَوْ لَمْ يُرَدْ مَعْنًى وَلَمْ يَكُنْ مَنْوِيًّا كَانَ اسْتِعَارَةً. مِثَالُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} (الْبَقَرَةِ: 187) فَهَذَا تَشْبِيهٌ لَا اسْتِعَارَةٌ، لِذِكْرِ الطَّرَفَيْنِ: الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ، وَهُوَ مَا يَمْتَدُّ مِنْ غَسَقِ اللَّيْلِ شَبِيهًا بِخَيْطٍ أَسْوَدَ وَأَبْيَضَ، وَبُيِّنَا بِقَوْلِهِ: {مِنَ الْفَجْرِ} وَالْفَجْرُ- وَإِنْ كَانَ بَيَانًا لِلْخَيْطِ الْأَبْيَضِ- لَكِنْ لَمَّا كَانَ أَحَدُهُمَا بَيَانًا لِلْآخَرِ لِدَلَالَتِهِ عَلَيْهِ اكْتُفِيَ بِهِ عَنْهُ، وَلَوْلَا الْبَيَانُ كَانَ مِنْ بَابِ الِاسْتِعَارَةِ، كَمَا أَنَّ قَوْلَكَ: رَأَيْتُ أَسَدًا، اسْتِعَارَةٌ، فَإِذَا زِدْتَ: مِنْ فُلَانٍ، صَارَ تَشْبِيهًا، وَأَمَّا أَنَّهُ لِمَ زِيدَ {مِنَ الْفَجْرِ} حَتَّى صَارَ تَشْبِيهًا؟ وَهَلَّا اقْتَصَرَ بِهِ عَلَى الِاسْتِعَارَةِ الَّتِي هِيَ أَبْلَغُ؟ فَلِأَنَّ شَرْطَ الِاسْتِعَارَةِ أَنْ يَدُلَّ عَلَيْهِ الْحَالُ. وَلَوْ لَمْ يُذْكَرْ {مِنَ الْفَجْرِ} لَمْ يُعْلَمْ أَنَّ الْخَيْطَيْنِ مُسْتَعَارَانِ مِنْ " بَدَا الْفَجْرُ " فَصَارَ تَشْبِيهًا.
التَّقْسِيمُ الثَّانِي: يَنْقَسِمُ بِاعْتِبَارِ طَرَفَيْهِ إِلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ؛ لِأَنَّهُمَا: إِمَّا حِسِّيَّانِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} (يس: 39) وَقَوْلِهِ: {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} (الْقَمَرِ: 20). أَوْ عَقْلِيَّانِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} (الْبَقَرَةِ: 74). وَإِمَّا تَشْبِيهُ الْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ، تَقْسِيمُ التَّشْبِيهِ بِاعْتِبَارِ طَرَفَيْهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ} (الْعَنْكَبُوتِ: 41) وَقَوْلِهِ: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ} (إِبْرَاهِيمَ: 18) وَقَوْلِهِ: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} (الْجُمُعَةِ: 5) لِأَنَّ حَمْلَهُمُ التَّوْرَاةَ لَيْسَ كَالْحَمْلِ عَلَى الْعَاتِقِ، إِنَّمَا هُوَ الْقِيَامُ بِمَا فِيهَا. أَمَّا عَكْسُهُ فَمَنَعَهُ الْإِمَامُ؛ لِأَنَّ الْعَقْلَ مُسْتَفَادٌ مِنَ الْحِسِّ، وَلِذَلِكَ قِيلَ: مَنْ فَقَدَ حِسًّا فَقَدْ فَقَدَ عِلْمًا، وَإِذَا كَانَ الْمَحْسُوسُ أَصْلًا لِلْمَعْقُولِ فَتَشْبِيهُهُ بِهِ يَسْتَلْزِمُ جَعْلَ الْأَصْلِ فَرْعًا وَالْفَرْعَ أَصْلًا وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ. وَأَجَازَهُ غَيْرُهُ كَقَوْلِهِ: وَكَأَنَّ النُّجُومَ بَيْنَ دُجَاهُ *** سُنَنٌ لَاحَ بَيْنَهُنَّ ابْتِدَاعُ وَيَنْقَسِمُ بِاعْتِبَارٍ آخَرَ إِلَى خَمْسَةِ أَقْسَامٍ: الْأَوَّلُ: قَدْ يُشَبَّهُ مَا تَقَعُ عَلَيْهِ الْحَاسَّةُ بِمَا لَا تَقَعُ اعْتِمَادًا عَلَى مَعْرِفَةِ النَّقِيضِ وَالضِّدِّ، فَإِنَّ إِدْرَاكَهُمَا أَبْلَغُ مِنْ إِدْرَاكِ الْحَاسَّةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} (الصَّافَّاتِ: 65) فَشَبَّهَ بِمَا لَا نَشُكُّ أَنَّهُ مُنْكَرٌ قَبِيحٌ، لِمَا حَصَلَ فِي نُفُوسِ النَّاسِ مِنْ بَشَاعَةِ صُوَرِ الشَّيَاطِينِ وَإِنْ لَمْ تَرَهَا عَيَانًا. الثَّانِي: عَكْسُهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ} (النُّورِ: 39) أَخْرَجَ مَا لَا يُحَسُّ وَهُوَ الْإِيمَانُ إِلَى مَا يُحَسُّ وَهُوَ السَّرَابُ، وَالْمَعْنَى الْجَامِعُ بُطْلَانُ التَّوَهُّمِ بَيْنَ شِدَّةِ الْحَاجَةِ وَعِظَمِ الْفَاقَةِ. الثَّالِثُ: إِخْرَاجُ مَا لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِهِ إِلَى مَا جَرَتْ بِهِ؛ نَحْوَ: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ} (الْأَعْرَافِ: 171) وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا الِانْتِفَاعُ بِالصُّورَةِ، وَكَذَا قَوْلُهُ: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ} (يُونُسَ: 24) وَالْجَامِعُ الْبَهْجَةُ وَالزِّينَةُ، ثُمَّ الْهَلَاكُ وَفِيهِ الْعِبْرَةُ. الرَّابِعُ: إِخْرَاجُ مَا لَا يُعْرَفُ بِالْبَدِيهَةِ إِلَى مَا يُعْرَفُ بِهَا، كَقَوْلِهِ: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} (آلِ عِمْرَانَ: 133) الْجَامِعُ الْعِظَمُ، وَفَائِدَتُهُ التَّشْوِيقُ إِلَى الْجَنَّةِ بِحُسْنِ الصِّفَةِ. الْخَامِسُ: إِخْرَاجُ مَا لَا قُوَّةَ لَهُ فِي الصِّفَةِ إِلَى مَا لَهُ قُوَّةٌ فِيهَا، كَقَوْلِهِ: {وَلَهُ الْجِوَارِي الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ} (الرَّحْمَنِ: 24) وَالْجَامِعُ فِيهِمَا الْعِظَمُ، وَالْفَائِدَةُ الْبَيَانُ عَنِ الْقُدْرَةِ عَلَى تَسْخِيرِ الْأَجْسَامِ الْعِظَامِ فِي أَعْظَمِ مَا يَكُونُ مِنَ الْمَاءِ. وَعَلَى هَذِهِ الْأَوْجُهِ تَجْرِي تَشْبِيهَاتُ الْقُرْآنِ.
التَّقْسِيمُ الثَّالِثُ: يَنْقَسِمُ إِلَى مُفْرَدٍ وَمُرَكَّبٍ مِنْ أَقْسَامِ التَّشْبِيهِ: وَالْمُرَكَّبُ أَنْ يُنْزَعَ مِنْ أُمُورٍ مَجْمُوعٍ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} (الْجُمُعَةِ: 5) فَالتَّشْبِيهُ مُرَكَّبٌ مِنْ أَحْوَالِ الْحِمَارِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ حَمْلَ الْأَسْفَارِ الَّتِي هِيَ أَوْعِيَةُ الْعِلْمِ، وَخَزَائِنُ ثَمَرَةِ الْعُقُولِ، ثُمَّ لَا يُحْسِنُ مَا فِيهَا، وَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ سَائِرِ الْأَحْمَالِ الَّتِي لَيْسَتْ مِنَ الْعِلْمِ فِي شَيْءٍ، فَلَيْسَ لَهُ مِمَّا يَحْمِلُ حَظٌّ سِوَى أَنَّهُ يَثْقُلُ عَلَيْهِ وَيُتْعِبُهُ. وَقَوْلِهِ: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا} (الْعَنْكَبُوتِ: 41). وَقَوْلِهِ: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ} (الْكَهْفِ: 45) قَالَ بَعْضُهُمْ: شَبَّهَ الدُّنْيَا بِالْمَاءِ، وَوَجْهُ الشَّبَهِ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَاءَ إِذَا أَخَذْتَ مِنْهُ فَوْقَ حَاجَتِكَ تَضَرَّرْتَ، وَإِنْ أَخَذْتَ قَدَرَ الْحَاجَةِ انْتَفَعْتَ بِهِ، فَكَذَلِكَ الدُّنْيَا. وَثَانِيهِمَا: أَنَّ الْمَاءَ إِذَا أَطْبَقْتَ كَفَّكَ عَلَيْهِ لِتَحْفَظَهُ لَمْ يَحْصُلْ فِيهِ شَيْءٌ، فَكَذَلِكَ الدُّنْيَا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ تَشْبِيهَهَا بِالْمَاءِ وَحْدَهُ، بَلِ الْمُرَادُ تَشْبِيهُهُ بَهْجَةَ الدُّنْيَا فِي قِلَّةِ الْبَقَاءِ وَالدَّوَامِ بِأَنِيقِ النَّبَاتِ الَّذِي يَصِيرُ بَعْدَ تِلْكَ الْبَهْجَةِ وَالْغَضَاضَةِ وَالطَّرَاوَةِ إِلَى مَا ذُكِرَ. وَمِنْ تَشْبِيهِ الْمُفْرَدِ بِالْمُرَكَّبِ قَوْلُهُ: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ} (النُّورِ: 35) فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَرَادَ تَشْبِيهَ نُورِهِ الَّذِي يُلْقِيهِ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ، ثُمَّ مَثَّلَهُ بِمِصْبَاحٍ؛ ثُمَّ لَمْ يَقْنَعْ بِكُلِّ مِصْبَاحٍ؛ بَلْ بِمِصْبَاحٍ اجْتَمَعَتْ فِيهِ أَسْبَابُ الْإِضَاءَةِ؛ بِوَضْعِهِ فِي مِشْكَاةٍ؛ وَهِيَ الطَّاقَةُ غَيْرُ النَّافِذَةِ؛ وَكَوْنُهَا لَا تَنْفُذُ لِتَكُونَ أَجْمَعَ لِلتَّبَصُّرِ، وَقَدْ جُعِلَ فِيهَا مِصْبَاحٌ فِي دَاخِلِ زُجَاجَةٍ، فِيهِ الْكَوْكَبُ الدُّرِّيُّ فِي صَفَائِهَا، وَدُهْنُ الْمِصْبَاحِ مِنْ أَصْفَى الْأَدْهَانِ وَأَقْوَاهَا وَقُودًا؛ لِأَنَّهُ مِنْ زَيْتِ شَجَرٍ فِي أَوْسَطِ الزُّجَاجِ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ فَلَا تُصِيبُهَا الشَّمْسُ فِي أَحَدِ طَرَفَيِ النَّهَارِ بَلْ تُصِيبُهَا أَعْدَلَ إِصَابَةٍ. وَهَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِ، ثُمَّ ضَرَبَ لِلْكَافِرِ مَثَلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} (النُّورِ: 39) وَالثَّانِي {كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ} (النُّورِ: 40) شَبَّهَ فِي الْأَوَّلِ مَا يَعْلَمُهُ مَنْ لَا يُقَدِّرُ الْإِيمَانَ الْمُعْتَبَرَ بِالْأَعْمَالِ الَّتِي يَحْسَبُهَا بِقِيعَةٍ، ثُمَّ يَخِيبُ أَمَلُهُ، بِسَرَابٍ يَرَاهُ الْكَافِرُ بِالْمُشَاهَدَةِ، وَقَدْ غَلَبَهُ عَطَشُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَيَجِيئُهُ فَلَا يَجِدُهُ مَاءً، وَيَجِدُ زَبَانِيَةَ اللَّهِ عِنْدَهُ، فَيَأْخُذُونَهُ فَيُلْقُونَهُ إِلَى جَهَنَّمَ.
الْأُولَى قَدْ تُشَبَّهُ أَشْيَاءُ بِأَشْيَاءَ ثُمَّ تَارَةً يُصَرِّحُ بِذِكْرِ الْمُشَبَّهَاتِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ} (غَافِرٍ: 58) وَتَارَةً لَا يُصَرِّحُ بِهِ بَلْ يَجِيءُ مَطْوِيًّا عَلَى سُنَنِ الِاسْتِعَارَةِ؛ كَقَوْلِهِ: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} (فَاطِرٍ: 12) {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ} (الزُّمَرِ: 29) الْآيَةَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالَّذِي عَلَيْهِ عُلَمَاءُ الْبَيَانِ أَنَّ التَّمْثِيلَيْنِ جَمِيعًا مِنْ جُمْلَةِ التَّمْثِيلَاتِ الْمُرَكَّبَةِ لَا الْمُفَرَّقَةِ؛ بَيَانُهُ أَنَّ الْعَرَبَ تَأْخُذُ أَشْيَاءَ فُرَادَى فَتُشَبِّهُهَا بِنَظَائِرِهَا كَمَا ذَكَرْنَا وَتُشَبِّهُ كَيْفِيَّةً حَاصِلَةً مِنْ مَجْمُوعِ أَشْيَاءَ تَضَامَّتْ حَتَّى صَارَتْ شَيْئًا وَاحِدًا بِأُخْرَى، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ} (الْجُمُعَةِ: 5) الْآيَةَ. وَنَظَائِرُهُ مِنْ حَيْثُ اجْتَمَعَتْ تَشْبِيهَاتٌ؛ كَمَا فِي تَمْثِيلِ اللَّهِ حَالَ الْمُنَافِقِينَ أَوَّلَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَأَبْلَغُهُ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ أَدَلُّ عَلَى فَرْطِ الْحَيْرَةِ، وَشِدَّةِ الْأَمْرِ وَفَظَاعَتِهِ؛ وَلِذَلِكَ أُخِّرَ، قَالَ: وَهُمْ يَتَدَرَّجُونَ فِي نَحْوِ هَذَا مِنَ الْأَهْوَنِ إِلَى الْأَغْلَظِ. الثَّانِيَةُ: أَعْلَى مَرَاتِبِ التَّشْبِيهِ فِي الْأَبْلَغِيَّةِ تَرْكُ وَجْهِ الشَّبَهِ وَأَدَاتِهِ، نَحْوَ: زَيْدٌ أَسَدٌ، أَمَّا تَرْكُ وَجْهِهِ وَحْدَهُ فَكَقَوْلِهِ: زَيْدٌ كَالْأَسَدِ، وَأَمَّا تَرْكُ أَدَاتِهِ وَحْدَهَا فَكَقَوْلِهِ: زَيْدٌ الْأَسَدُ شِدَّةً. وَفِي كَلَامِ صَاحِبِ " الْمِفْتَاحِ " إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ تَرْكَ وَجْهِ الشَّبَهِ أَبْلَغُ مِنْ تَرْكِ أَدَاتِهِ؛ قَالَ: لِعُمُومِ وَجْهِ الشَّبَهِ. وَخَالَفَهُ صَاحِبُ " ضَوْءِ الْمِصْبَاحِ "؛ لِأَنَّهُ إِذَا عَمَّ وَاحْتَمَلَ التَّعَدُّدَ، وَلَمْ تَبْقَ دَلَالَتُهُ عَلَى مَا بِهِ الِاشْتِرَاكُ دَلَالَةَ مَنْطُوقٍ بَلْ دَلَالَةَ مَفْهُومٍ؛ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَا بِهِ الِاشْتِرَاكُ صِفَةَ ذَمٍّ لَا مَدْحٍ، وَهُوَ غَيْرُ لَازِمٍ فِي تَرْكِ الْأَدَاةِ، إِلَّا أَنْ يُقَالَ: يَلْزَمُ مِثْلُهُ مِنْ تَرْكِهَا؛ لِأَنَّ قَرِينَةَ تَرْكِ الْأَدَاةِ تَصْرِفُ إِرَادَةَ الْمَدْحِ دُونَ الذَّمِّ. وَذِكْرُهُمَا كَقَوْلِكَ: زَيْدٌ كَالْأَسَدِ شِدَّةً. الثَّالِثَةُ: قَدْ تَدْخُلُ الْأَدَاةُ عَلَى شَيْءٍ وَلَيْسَ هُوَ عَيْنَ الْمُشَبَّهِ، وَلَكِنَّهُ مُلْتَبِسٌ بِهِ، وَاعْتَمَدَ عَلَى فَهْمِ الْمُخَاطَبِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} (الصَّفِّ: 14) الْآيَةَ، الْمُرَادُ: كُونُوا أَنْصَارًا لِلَّهِ خَالِصِينَ فِي الِانْقِيَادِ؛ كَشَأْنِ مُخَاطِبِي عِيسَى إِذْ قَالُوا. وَمِمَّا دَلَّ عَلَى السِّيَاقِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ} (الْأَعْرَافِ: 171) وَفِيهِ زِيَادَةٌ، وَهُوَ تَشْبِيهُ الْخَارِقِ بِالْمُعْتَادِ. الرَّابِعَةُ: إِذَا كَانَتْ فَائِدَتُهُ إِنَّمَا هِيَ تَقْرِيبَ الشَّبَهِ فِي فَهْمِ السَّامِعِ وَإِيضَاحَهُ لَهُ، فَحَقُّهُ أَنْ يَكُونَ وَجْهُ الشَّبَهِ فِي الْمُشَبَّهِ بِهِ أَتَمَّ، وَالْقَصْدُ التَّنْبِيهُ بِالْأَدْنَى عَلَى الْأَعْلَى، مِثْلَ قِيَاسِ النَّحْوِيِّ؛ وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ الدُّنُوُّ جِدًّا أَوِ الْعُلُوُّ جِدًّا، وَعَلَيْهِ بَنَى الْمَعَرِّي قَوْلَهُ: ظَلَمْنَاكَ فِي تَشْبِيهِ صُدْغَيْكَ بِالْمِسْكِ *** وَقَاعِدَةُ التَّشْبِيهِ نُقْصَانُ مَا يُحْكَى وَقَوْلُ آخَرَ: كَالْبَحْرِ وَالْكَافِ أَنَّى ضِفْتَ زَائِدَةً *** فِيهِ فَلَا تَظَّنِنْهَا كَافَ تَشْبِيهِ وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ} (النُّورِ: 35) فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُشَبَّهُ بِهِ أَقْوَى؛ لِكَوْنِهِ فِي الذِّهْنِ أَوْضَحَ؛ إِذِ الْإِحَاطَةُ بِهِ أَتَمُّ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ} (آلِ عِمْرَانَ: 59) فَهُوَ مِنْ تَشْبِيهِ الْغَرِيبِ بِالْأَغْرَبِ؛ لِأَنَّ خَلْقَ آدَمَ أَغْرَبُ مِنْ خَلْقِ عِيسَى؛ لِيَكُونَ أَقْطَعَ لِلْخَصْمِ، وَأَوْقَعَ فِي النَّفْسِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْقِيَاسِ، وَهُوَ رَدُّ فَرْعٍ إِلَى أَصْلٍ لِشَبَهٍ مَا؛ لِأَنَّ عِيسَى رُدَّ إِلَى آدَمَ لِشَبَهٍ بَيْنَهُمَا، وَالْمَعْنَى أَنَّ آدَمَ خُلِقَ مِنْ تُرَابٍ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَبٌ وَلَا أُمٌّ، فَكَذَلِكَ خُلِقَ عِيسَى مِنْ غَيْرِ أَبٍ. وَقَوْلُهُ: {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} (الْمُنَافِقُونَ: 4) شَبَّهَهُمْ بِالْخُشُبِ؛ لِأَنَّهُ لَا رُوحَ فِيهَا، وَبِالْمُسَنَّدَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا انْتِفَاعَ بِالْخَشَبِ فِي حَالِ تَسْنِيدِهِ. الْخَامِسَةُ: الْأَصْلُ دُخُولُ أَدَاةِ التَّشْبِيهِ عَلَى الْمُشَبَّهِ بِهِ، وَهُوَ الْكَامِلُ، كَقَوْلِكَ: لَيْسَ الْفِضَّةُ كَالذَّهَبِ، وَلَيْسَ الْعَبْدُ كَالْحُرِّ، وَقَدْ تَدْخُلُ عَلَى الْمُشَبَّهِ لِأَسْبَابٍ: مِنْهَا: وُضُوحُ الْحَالِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى} (آلِ عِمْرَانَ: 36) فَإِنَّ الْأَصْلَ: وَلَيْسَ الْأُنْثَى كَالذَّكَرِ، وَإِنَّمَا عَدَلَ عَنِ الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى {وَلَيْسَ الذَّكَرُ} الَّذِي طَلَبَتْ كَالْأُنْثَى الَّتِي وُهِبَتْ لَهَا؛ لِأَنَّ الْأُنْثَى أَفْضَلُ مِنْهُ، وَقِيلَ: لِمُرَاعَاةِ الْفَوَاصِلِ؛ لِأَنَّ قَبْلَهُ {إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى} (آلِ عِمْرَانَ: 36). وَوَهِمَ ابْنُ الزَّمْلَكَانِيُّ فِي " الْبُرْهَانِ " حَيْثُ زَعَمَ أَنَّ هَذَا مِنَ التَّشْبِيهِ الْمَقْلُوبِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْمَعْنَى. وَقِيلَ: لَمَّا كَانَ جَعْلُ الْفَرْعِ أَصْلًا وَالْأَصْلُ فَرْعًا فِي التَّشْبِيهِ فِي حَالَةِ الْإِثْبَاتِ، يَقْتَضِي الْمُبَالَغَةَ فِي التَّشْبِيهِ، كَقَوْلِهِمْ: الْقَمَرُ كَوَجْهِ زَيْدٍ، وَالْبَحْرُ كَكَفَّيْهِ، كَانَ جَعْلُ الْأَصْلِ فَرْعًا وَالْفَرْعِ أَصْلًا فِي كَمَالِهِ الَّذِي يَقْتَضِي نَفْيَ الْمُبَالَغَةِ فِي الْمُشَابَهَةِ لَا نَفْيَ الْمُشَابَهَةِ، وَذَلِكَ هُوَ الْمَقْصُودُ هُنَا؛ لِأَنَّ الْمُشَابَهَةَ وَاقِعَةٌ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى فِي أَعَمِّ الْأَوْصَافِ وَأَغْلَبِهَا، وَلِهَذَا يُقَادُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ. وَمِنْهَا قَصْدُ الْمُبَالَغَةِ، فَيُقْلَبُ التَّشْبِيهُ، وَيُجْعَلُ الْمُشَبَّهُ هُوَ الْأَصْلَ، وَيُسَمَّى تَشْبِيهَ الْعَكْسِ؛ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى جَعْلِ الْمُشَبَّهِ مُشَبَّهًا بِهِ، وَالْمُشَبَّهِ بِهِ مُشَبَّهًا؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} (الْبَقَرَةِ: 275) كَانَ الْأَصْلُ أَنْ يَقُولُوا: إِنَّمَا الرِّبَا مِثْلُ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي الرِّبَا لَا فِي الْبَيْعِ، لَكِنْ عَدَلُوا عَنْ ذَلِكَ وَتَجَرَّءُوا، إِذْ جَعَلُوا الرِّبَا أَصْلًا مُلْحَقًا بِهِ الْبَيْعُ فِي الْجَوَازِ، وَأَنَّهُ الْخَلِيقُ بِالْحِلِّ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ إِلْزَامَ الْإِسْلَامِ، فَيَحْرُمُ الْبَيْعُ قِيَاسًا عَلَى الرِّبَا؛ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى الْفَضْلِ طَرْدًا لِأَصْلِهِمْ، وَهُوَ فِي الْمَعْنَى نَقْضٌ عَلَى عِلَّةِ التَّحْرِيمِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (الْبَقَرَةِ: 275) وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْوَاجِبَ اتِّبَاعُ أَحْكَامِ اللَّهِ وَاقْتِفَاؤُهَا مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِإِجْرَائِهَا عَلَى قَانُونٍ وَاحِدٍ، وَأَنَّ الْأَسْرَارَ الْإِلَهِيَّةَ كَثِيرًا مَا تَخْفَى، وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَصَالِحِ عِبَادِهِ فَيُسَلَّمُ لَهُ عِنَانُ الِانْقِيَادِ، وَأَنَّهُمْ جَعَلُوا ذَلِكَ مِنْ بَابِ إِلْزَامِ الْجَدَلِيِّ، رَجَاءَ الْجَوَابِ بِفَكِّ الْمُلَازَمَةِ، وَأَنَّ الْحِكْمَةَ فَرَّقَتْ بَيْنَهُمَا، وَفِيهِ إِبْطَالُ الْقِيَاسِ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ} (النَّحْلِ: 17) فَإِنَّ الظَّاهِرَ الْعَكْسُ؛ لِأَنَّ الْخِطَابَ لِعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ؛ وَسَمَّوْهَا آلِهَةً تَشْبِيهًا بِاللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَقَدْ جَعَلُوا غَيْرَ الْخَالِقِ مِثْلَ الْخَالِقِ، فَخُولِفَ فِي خِطَابِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ بَالَغُوا فِي عِبَادَتِهِمْ وَغَلَوْا، حَتَّى صَارَتْ عِنْدَهُمْ أَصْلًا فِي الْعِبَادَةِ وَالْخَالِقُ سُبْحَانَهُ فَرْعًا فَجَاءَ الْإِشْكَالُ عَلَى وَفْقِ ذَلِكَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ لَمَّا قَاسَوْا غَيْرَ الْخَالِقِ خُوطِبُوا بِأَشَدِّ الْإِلْزَامَيْنِ؛ وَهُوَ تَنْقِيصُ الْمُقَدَّسِ لَا تَقْدِيسُ النَّاقِصِ. قَالَ السَّكَّاكِيُّ: " وَعِنْدِي أَنَّ الْمُرَادَ بِـ " مَنْ لَا يَخْلُقُ " الْحَيُّ الْقَادِرُ مِنَ الْخَلْقِ؛ تَعْرِيضًا بِإِنْكَارِ تَشْبِيهِ الْأَصْنَامِ بِاللَّهِ تَعَالَى مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى، وَجَعَلَ مِنْهُ قَوْلَهُ تَعَالَى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} (الْجَاثِيَةِ: 23) بَدَلَ " هَوَاهُ إِلَهَهُ " فَإِنَّهُ جَعَلَ الْمَفْعُولَ الْأَوَّلَ ثَانِيًا وَالثَّانِيَ أَوَّلَ؛ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الْهَوَى أَقْوَى وَأَوْثَقُ عِنْدَهُ مِنْ إِلَهِهِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} (الْقَلَمِ: 35). وَقَوْلُهُ: {أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} (ص: 28) فَإِنَّ بَعْضَهُمْ أَوْرَدَ أَنَّ أَصْلَ التَّشْبِيهِ يُشَبَّهُ الْأَدْنَى بِالْأَعْلَى، فَيُقَالُ: أَفَتَجْعَلُ الْمُجْرِمِينَ كَالْمُسْلِمِينَ، وَالْفُجَّارَ كَالْمُتَّقِينَ " فَلِمَ خُولِفَتِ الْقَاعِدَةُ. وَيُقَالُ: فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يَقُولُونَ: نَحْنُ نَسُودُ فِي الْآخِرَةِ كَمَا نَسُودُ فِي الدُّنْيَا، وَيَكُونُونَ أَتْبَاعًا لَنَا، فَكَمَا أَعَزَّنَا اللَّهُ فِي هَذِهِ الدَّارِ يُعِزُّنَا فِي الْآخِرَةِ، فَجَاءَ الْجَوَابُ عَلَى مُعْتَقَدِهِمْ أَنَّهُمْ أَعْلَى وَغَيْرَهُمْ أَدْنَى. الثَّانِي: لَمَّا قِيلَ قَبْلَ الْآيَةِ: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} (ص: 27) أَيْ: يَظُنُّونَ أَنَّ الْأَمْرَ يُهْمَلُ، وَأَنْ لَا حَشْرَ وَلَا نَشْرَ، وَلَمْ يَظُنُّوا ذَلِكَ، وَلَكِنْ يَظُنُّونَ أَنَّا نَجْعَلُ الْمُؤْمِنِينَ كَالْمُجْرِمِينَ وَالْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ. السَّادِسَةُ: أَنَّ التَّشْبِيهَ إِذَا كَانَ فِي الذَّمِّ يُشَبَّهُ الْأَعْلَى بِالْأَدْنَى؛ لِأَنَّ الذَّمَّ مَقَامُ الْأَدْنَى، وَالْأَعْلَى ظَاهِرٌ عَلَيْهِ، فَيُشَبَّهُ بِهِ فِي السَّلْبِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ} (الْأَحْزَابِ: 32) أَيْ: فِي النُّزُولِ لَا فِي الْعُلُوِّ. وَمِنْهُ: {أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} (ص: 28) أَيْ: فِي سُوءِ الْحَالِ، وَإِذَا كَانَ فِي الْمَدْحِ يُشَبَّهُ الْأَدْنَى بِالْأَعْلَى فَيُقَالُ: تُرَابٌ كَالْمِسْكِ، وَحَصًى كَالْيَاقُوتِ، وَفِي الذَّمِّ: مِسْكٌ كَالتُّرَابِ، وَيَاقُوتٌ كَالزُّجَاجِ. السَّابِعَةُ: قَدْ يَدْخُلُ التَّشْبِيهُ عَلَى لَفْظٍ وَهُوَ مَحْذُوفٌ لِامْتِنَاعِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ بِسَبَبِ الْمَحْذُوفِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ} (الْبَقَرَةِ: 171) فَإِنَّ التَّقْدِيرَ: وَمَثَلُ وَاعِظِ الَّذِينَ كَفَرُوا، فَالْمُشَبَّهُ الْوَاعِظُ، وَالْمَقْصُودُ تَشْبِيهُ حَالِ الْوَاعِظِ مِنْهُمْ بِالنَّاعِقِ لِلْأَغْنَامِ، وَهِيَ لَا تَعْقِلُ مَعْنَى دُعَائِهِ، وَإِنَّمَا تَسْمَعُ صَوْتَهُ وَلَا تَفْهَمُ غَرَضَهُ، وَإِنَّمَا وَقَعَ التَّشْبِيهُ عَلَى الْغَنَمِ الَّتِي يَنْعِقُ بِهَا الرَّاعِي وَيَمُدُّ صَوْتَهُ إِلَيْهَا، فَلَمْ يَحْمِلِ التَّشْبِيهُ فِيهَا وُصُولَهُ إِلَى الرَّاعِي الَّذِي يَصِيحُ لَمَّا كَانَ مِنَ الْأَمْرِ تَشْبِيهٌ، وَفِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْمَعْنَى: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الْغَنَمِ لَا تَفْهَمُ نِدَاءَ النَّاعِقِ، فَأَضَافَ الْمَثَلَ إِلَى النَّاعِقِ، وَهُوَ فِي الْمَعْنَى لِلْمَنْعُوقِ بِهِ، عَلَى الْقَلْبِ. ثَانِيهَا: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَثَلُنَا وَمَثَلُكَ، كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ، أَيْ مَثَلُهُمْ فِي الْإِعْرَاضِ وَمَثَلُنَا فِي الدُّعَاءِ وَالْإِرْشَادِ، كَمَثَلِ النَّاعِقِ بِالْغَنَمِ، فَحَذَفَ الْمَثَلَ الثَّانِيَ اكْتِفَاءً بِالْأَوَّلِ، كَقَوْلِهِ: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} (النَّحْلِ: 81). وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْمَعْنَى: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي دُعَائِهِمُ الْأَصْنَامَ- وَهِيَ لَا تَعْقِلُ وَلَا تَسْمَعُ-: {كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ} وَعَلَى هَذَا فَالنِّدَاءُ وَالدُّعَاءُ مُنْتَصِبَانِ بِـ " يَنْعِقُ " وَ (لَا) تَوْكِيدٌ لِلْكَلَامِ وَمَعْنَاهَا الْإِلْغَاءُ. رَابِعُهَا: أَنَّ الْمَعْنَى وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي دُعَائِهِمُ الْأَصْنَامَ وَعِبَادَتِهِمْ لَهَا وَاسْتِرْزَاقِهِمْ إِيَّاهَا، كَمِثَالِ الرَّاعِي الَّذِي يَنْعِقُ بِأَغْنَامِهِ وَيُنَادِيهَا، فَهِيَ تَسْمَعُ نِدَاءً وَلَا تَفْهَمُ مَعْنَى كَلَامِهِ، فَيُشَبِّهُ مَنْ يَدْعُوهُ الْكُفَّارُ مِنَ الْمَعْبُودَاتِ مِنْ دُونِ اللَّهِ بِالْغَنَمِ مِنْ حَيْثُ لَا تَعْقِلُ الْخِطَابَ. وَهَذَا قَرِيبٌ مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ، وَيَفْتَرِقَانِ فِي أَنَّ الْأَوَّلَ يَقْتَضِي ضَرْبَ الْمَثَلِ بِمَا لَا يَسْمَعُ الدُّعَاءَ وَالنِّدَاءَ جُمْلَةً، وَيَجِبُ صَرْفُهُ إِلَى غَيْرِ الْغَنَمِ، وَهَذَا يَقْتَضِي ضَرْبَ الْمَثَلِ بِمَا لَا يَسْمَعُ الدُّعَاءَ وَالنِّدَاءَ جُمْلَةً، وَإِنْ لَمْ يَفْهَمْهُمَا، وَالْأَصْنَامُ مِنْ حَيْثُ كَانَتْ لَا تَسْمَعُ الدُّعَاءَ جُمْلَةً يَجِبُ أَنْ يَكُونَ دَاعِيهَا وَنَادِيهَا أَسْوَأَ حَالًا مِنْ مُنَادِي الْغَنَمِ. ذَكَرَ ذَلِكَ الشَّرِيفُ الْمُرْتَضَى فِي كِتَابِ " غُرَرِ الْفَوَائِدِ ". وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ} (آلِ عِمْرَانَ: 117) الْآيَةَ، وَإِنَّمَا وَقَعَ التَّشْبِيهُ عَلَى الْحَرْثِ الَّذِي أَهْلَكَتْهُ الرِّيحُ، يَقُولُ: أَنْ يَجْعَلَهُ عَلَى الْحَرْثِ وُصُولُهُ إِلَى الرِّيحِ الَّتِي أَهْلَكَتِ الْحَرْثَ لَمَّا كَانَتِ الرِّيحُ مِنَ الْأَمْرِ بِسَبَبٍ، قِيلَ: فِيهِ إِضْمَارٌ؛ أَيْ: مَثَلُ إِهْلَاكِ مَا يُنْفِقُونَ كَمَثَلِ إِهْلَاكِ رِيحٍ. قَالَ ثَعْلَبٌ: فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، أَيْ: كَمَثَلِ حَرْثِ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ أَصَابَتْهُ رِيحٌ فِيهَا صِرٌّ فَأَهْلَكَتْهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} (الْبَقَرَةِ: 165) فَإِنَّ التَّقْدِيرَ: كَمَا يُحِبُّ الْمُؤْمِنُونَ اللَّهَ، قَالَ: وَحُذِفَ الْفَاعِلُ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُلْتَبِسٍ. وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ لِذَلِكَ؛ فَإِنَّ الْمَعْنَى حَاصِلٌ بِتَقْدِيرِهِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ تَقْدِيرُ مَعْنًى، لَكِنْ مُحَافَظَةً عَلَى اللَّفْظِ فَلَا يُقَدَّرُ الْفَاعِلُ، إِذِ الْفَاعِلُ فِي بَابِ الْمَصْدَرِ فَضْلَةٌ، فَلِذَلِكَ جَعَلَهُ كَذَلِكَ فِي التَّقْدِيرِ.
|